الحلقة الثامنة عشر الفصل الثاني الجزء الثاني الليل والدوادي

 

خيم الصمت على سهام ابنة العمدة ووالدتها التي وضعت يدها على خدها شاردة بعد أن أنهكهما البكاء والنحيب, فسألتها سهام بنبرة متهدجة: وبعدين يا امّا, هنسوي ايه ديلواك؟

 

تنهدت الأم بحسرة وقالت: ما عارفاش يا سهام, بوكِ حلف لو خوالك جم هيضربهم بالنار, ما عارفاش استنجد بمين

 

تشبثت بذراع والدتها وقالت وكأنها وجدت منقذها: بخواني التنين يا امّا أشرف وطايع

 

يعني هو هيسمع لهم جول يا بتي!!

 

لازمن يسمعلهم يا امّا, دول خواني ولازمن يجولوا رأيهم في جوازي. اتصلي بيهم  ديلواك يا امّا يهملوا اشغالهم في مصر وياجوا

 

والله يا بتي خايفة لو بوكِ دري اني شيعتلهم يغفلجها على راسهم وراسنا

 

انخرطت الفتاة في البكاء وقالت ناشجة: يعني هيسوي ايه اكتر من اللي هيسويه فيا يا امّا

 

التاع قلب والدتها وربتت على ظهرها وقالت بحنو: كفاكِ بكا يا سهام, خلاص يا بتي, هتصل بيهم يهملوا اشغالهم وياجوا يشوفوا صرفة مع بوهم. ع الصبح يكونوا هنيه ان شاء الله

 

ان شاء الله يا امّا....يارب ..آنا هجوم اصلي وابكي بين أيادي الله واطلب منيه ينجدني من الكرب ديه

 

جومي يا بتي..وآنا هكلم خوانك واصلي آنا التانية ..ما لهاش فرج إلا عند صاحب الفرج

 

*******************************

كان حتما على صفية زيارة أخيها في تلك الليلة لتخبره عما دار بينها وبين العمدة ..انفردت به وعندما أعلمته بأمر الأفدنة التي تنازلت عنها للعمدة انتفض عن مقعده يبرق ويرعد: جنيتِ يا صفية! خمسين فدان تعطيهم للعمدة نوبة واحدة! وعشان ايه! عشان بته!

 

لاه مش عشان بته, عشانك وعشاني يا بدران..لازمن نملوا خشم العمدة ونسدوه بالمال عشان نضمنوا انه يكون في صفنا ما يغدرش..وكان لازمن ناخدوا بته لولدنا عشان نبجوا منيه ويبجى منينا ..وجتها يحمي مصالحنا بعنيه عشان هتكون مصالحه هو التاني..سلام واد مطاوع وواد خوه الداكتور ناويين ع الشر وعم يدوروا على حج جميلة بت ابو الحجاج وعايزين كامل بنفسيه يحضر مجلس الرجال, والعمدة جال ان المرة دي غير كل مرة, وأجل المجلس لاجل خاطري, وآنا ما هجدرش اجف في وش الريح وحدي...كان لازمن اضمنوا العمدة في صفي

 

تجومي تعطيه خمسين فدان بزييهم!! كان كفاية نناسبوه من غير ما ياخد جيراط واحد

 

تبسمت ووضعت يدها على كتفه قائلة: الخمسين فدان دول هما اللي هيحموا الخمستلاف اللي نملكوهم ..ايه يعني خمسين فدان جصاد اللي نملكه!...مممم وبعدين يعني ليه ما سويتش كديه لما عرفت اني عطيت مصطفى ابو جارحي كدهم!!

 

مصطفى ديه ولدي اللي ما خلفتوش..مصطفى شايل جاميلي وجاميل ربايتي له من يوم ما بوه مات

 

انفجرت ضاحكة وقالت بتهكم: هو بوه مات صُح! كانّ السنين نستك ان بوه عايش وما عارفلوش طريج من يوم ما غدر بيك وهرب بالمال مع بت زيدان عشان ينجيها من يدنا مممم لو مصطفى عرف الحديت ديه ما هيبجيش عليك حي يا بدران

 

شخص بصره وتحسس رقبته ثم تنحنح بحدة مستجمعاً قواه وقال: لا هيعرف ولا عمره هيعرف..خابرة ليه؟

 

ضيقت عينيها مترقبة جوابه؟

 

عشان خليل الجارحي عمره ما هيعاود النجع ويضحي ببت زيدان اللي هرب عشان ينجيها...كانه عشجها يا بت بوي, والعشج مذلة

 

...ياريت احس بالأمان اللي انت حاسس بيه يا بدران وازعط الخوف اللي عم ينهش في جلبي......نرجعوا عاد لحديتنا..جهز روحك يوم الجمعة بعد صلاةالعشا هنروحوا نلبسوا العروسة الدهبات

 

وآنا ايه صالحي بالحديت ديه!

 

واه! مش خاله ومُطرح بوه!!

 

ارتجف وشخص بصره حين تذكر ما فعله بالشاذلي وغاب مستحضراً ضغطته على الزناد  وسقوطه مضرجاً بدمائه..أفاق على صوت صفية تهز كتفه: بدران...بدران ..واه! شارد في ايه؟

 

.....افتكرت الشاذلي واللي سوناه فيه

يا بووووي ع السيرة النحس اللي عم تنط جدامي كيف العفريت مهما الزمن دار

 

.....انتِ ما ندمتيش ع اللي سويناه في الشاذلي يا صفية! ...ما جاش يوم عليكِ وبكيتِ ع الشاذلي وعلى ايامك معاه؟

 

رد قلبها الغليظ فتحركت شفتاها: لا ندمت ولا حنيت ولا عمري ابكي ع اللي سجاني الفقر ومرمغني في الضنك والعيشة الضيجة. يا بوووي, غار وغارت ايامه

 

بدت ابتسامة ساخرة على محياه وهز رأسه وعيناه تقول: آيا حية رقطاء لا يؤمن مكرها

 

**********************************

عاد أحد رجال مصطفى وهو منكس الرأس واقترب من مقعده يمد إليه يده بظرف قد طوي على بعض المال, فابتئس مصطفى وقال: برديك عمتي سيدة ما رضتش تاخد المال كيف كل مرة!

 

ايوة يا ريس مصطفى. زعطتني وجالت آآآ

 

زمجر في وجهه: جالت ايه ما تنطج

 

...جالت خلي مصطفى يبعّد عني بماله ال..الحرام ..عمر الحرام اللي ملا جوفه ما هيمس جوفي لحد ما اموت

 

استعر الغضب على وجه مصطفى, فارتاع الرجل وقال بنبرة مرتعشة: ما تآخذنيش عاد يا ريس مصطفى..ديه ردها وآنا بلغتهولك. آنا ماليش صالح..آآآ الظرف أها

 

نتش مصطفى الظرف وألقاه على منضدة إلى جواره ونهر الرجل: غور من جدامي

 

فر الرجل من أمامه كالفأر المذعور, فاصطدم به حارس آخر أتى ليبلغ مصطفى أمراً: ريس مصطفى

 

رايد ايه انت التاني؟

 

في مرة كابيرة برا بتجول عايزاك لأمر ضروري

 

مين المرة ديّ؟

 

دخلت امرأة نحيلة شاحبة الوجه تجر سيقانها و تنظر إليه باستعطاف, فاتسعت حدقتا مصطفى غضباً لمرآها...أنها والدته التي تخلت عنه صغيراً. أتته اليوم ذليلة بين يديه, لم يبرح مقعده ولم يهتز وجده, رد بازدراء: انتِ!!

 

ردت بانكسار تستدر عطفه: ايوة آنا..أمك يا مصطفى

 

انفجر ضاحكاً: أمي!..صُح؟ دانا كنت نسيت الحكاية ديّ عاد من يوم ما زعطتيني من جدام عتبة دارك بدل المرة تنين وتلاتة عشان تشتري خاطر جوزك هاها

 

طأطأت رأسها خجلاً ولاذت بالصمت, فسألها بغلظة وتعال: جاية ليه يا مرة انتِ؟

 

نشجت وهرعت إلى مقعده وهمت بالجلوس إلى جواره, فنهرها: خليكِ واجفة, جتتك ما تلمسش حاجة هنيه, وجولي عايزة ايه وخلصي ما فاضيش

 

لم تتوقع والدته أن تلقى هذه القسوة, وجاهدت في جمع كلماتها المبعثرة, قالت بنشيج: مصطفى, آنا محتاجاك يا ولدي, جوزي طلجني وزعطني من الدار بعد ما كبرت وبجيت مش جادرة على خدمته

 

قهقه حتى كاد يصدع جدران القصر ثم قال متشفياً: يعني جوزك خد شبابك ورماكِ كيف الخلجة الجاديمة بعد شيبتك هاهاااا وديلواك افتكرتِ ولدك اللي رمتيه وهو عيل صاغير محتاجك عشان تتهني مع جوزك من غير عزول هاهاااا . دنيا غدارة صُح هاهاااا... وديلواك رايدة مني ايه عاد! ارجعك له بالغصب ولا ادورلك على راجل غيره! هاهاااا

 

بلعت غصة سخريته وقالت بوهن: بعد ما زعطني مالجياش مكان يؤويني يا ولدي

 

ليه اومال! ولادك منيه راحوا وين؟

 

الواد سافر على مصر من ياجي سنتين وجال مش معاود النجع تاني, والبتين اتجوزوا  وراحوا بيوتهم

 

انخرطت في بكاء مرير وأردفت: واجوازهم جالولي مالكيش مكان عندينا

 

قهقه وأخذ يضرب كفاً بكف فقد زاد بكائها المرير من نشوته التي تسنمها, وقال والضحك يراقص صوته: يعني اللي عملتيه فيا اتردلك الطاج عشرة

 

أنبته بوهن: شمتان في امك يا ولدي!

 

انتفض عن مقعده ثائراً: ما تجوليش امي, انتِ لا امي ولا اعرفك ولا رايد انضرك جدامي لحد ما تموتي, اطلعي برا السرايا وما تعتبيهاش برجلك تاني

 

أشار إلى الباب وزأر كالليث الغاضب: برا يا مرة انتِ

 

نشجت المرأة وأخذت في التوسل وهو مشيحاً بوجهه: ولدي, مصطفى, طب خليني هنيه خدامة بلجمتي, ما تجساش على امك في شيبتها كيف ما الناس جسيوا عليها يا ولدي

 

...لو كنتِ حنيتي عليّ في شبابك, كنت غرجتك بحنيتي في شيبتك, الجسوة انتِ اللي علمتيهالي جبل الكل, وكفاكِ من الحديت اللي لا يجدم ولا يأخر  واطلعي برا جبل ما انادي ع الحرس يرموكِ برا كيف الكلاب

 

ردت وقد عصف رده بآمالها في حنو رجته عند المشيب: كتر خيرك يا مصطفى, كتر خيرك يا ولدي

 

اتجهت إلى باب القصر متكئة على الجدران تتبعها نظراته الملتهبة حتى اختفت عن ناظريه فنادي في الحرس فأتوا يهرولون:

 

أمر جنابك يا مصطفى بيه

 

فزأر غاضباً: المرة ديّ لو جت هنيه تاني, اجطعوا رجلها

 

أمر جنابك يا مصطفى بيه

 

عادوا من حيث أتوا فهبط في مقعده يواري وجهه بكفيه مسترجعاً ذكرياته مع قلبها الجاحد في عنفوان شبابها حين كان يدق بابها فتثور لمرآه وتوكزه وتزيحه بعيداً ككلب أجرب وتصفع الباب في وجهه خشية أن يراه زوجها...فبعد مرور الزمان ما  رد إليها غير بعض صنيعها .. مضت وقد أوقدت جمار الذكرى في أتون قلبه فما زادته إلا أوجاعا

 

 

******************************

 

في الصباح الباكر تفاجأ العمدة بولديه أمامه, فأدرك الأمر واجتمع بهما في مندرته, فقال أشرف الكبير: آنا ما موافجش ع الجوازة ديّ يا بوي

 

وقال طايع الأوسط بحدة: وآنا التاني ما موافجش يا بوي. كيف نجوزوا سهام اختي للواد الواطي ديه! ديه حتى العلام ما فلحش فيه وطول الليل سارح ورا الغوازي

 

رد العمدة: ديه شيء ما يعيبوش. شاب وطالع للدنيا ورايد يتهنى يامين بشبابه

 

رد الإبن الأكبر أشرف, طيب ما آنا وطايع خوي شباب وطالعين للدنيا, ما بنسووش زييه ليه يا بوي!!

 

انتو رباية طين, من صغركوا كارهين المال وكارهين الدنيا وحتى كارهين نفسكو. رباية سلطان الله يحرجه

 

انتفض طايع الإبن الأوسط عن مقعده وقال مؤنباً والده: ما تدعيش ع الشيخ سلطان يا بوي

 

هو ديه محوج فيه دعا ولا بيجراله حاجة!

 

لمعت عينا أشرف وتنسم الأمل سائلاً:: انتو عرفتوا طريج الشيخ سلطان يا بوي؟

 

زاغ بصره وتلجلج : آآآ آنا جولت كديه ديلواك!

 

واه! مش بتجول يا بوي ما محوجش فيه دعا ولا بيجراله حاجة؟ معناة الحديت انك عارف طريجه

 

هاج وماج وافتعل ضجيجاً لينحرف بالحديث عن مرمى ولديه: اها انت وخوك طول عمركو كديه, الواحد يتحدت يامين تحدفوه شمال ولا تعرفوا تتحدتوا ولا تحلوا ولا تربطوا, خلينا في حديتنا عن جوازة اختكو يا خلف الشوم انتو التنين, شوف مهر اختك كد ايه يا حزين انت وهو

 

عمد العمدة إلى الخزانة وأخرج منها عقد الأفدنة وعاد إليهما, مد يده بالعقد إلى ولده الكبير أشرف وقال: اتطلع في الورجة ديّ وملي عينك يا فجري. عقد بخمسين فدان أرضهم عفية ناجص ع الإمضا عطتهولي الست صفية مهر لاختك

 

أمسك أشرف العقد وبدت على وجهه ابتسامة ساخرة وقال متهكماً: ومن ميتى بت كلاف البهايم عنديها أرض ولا تحتكم على مال يا بوي!! نجع ابو المنصور كلاته خابر مليح إن ديّ أرض كامل ابو الحجاج

 

واه! وهو كامل ايه وهي ايه! مش مرته وصاحبة ماله!!

 

رد طايع الأوسط مستنكراً: لاه يا بوي لاه, ما تحيدش عن الحق. كلاتنا خابرين زين إن جميلة بت ابو الحجاج لها حج عند خوها ما عارفاش تاخده, والأراضي ديّ الأصول تتكتب باسمها مش باسمك ولا اسم اختي. هنروحوا وين من ربنا لما نرضوا بالظلم والجور ديه يا بوي!

 

وقال أشرف الكبير مصدقاً على قول أخيه: صُح يا بوي, الأرض ديّ أصول كامل ابو الحجاج يكتبها باسم اخته جميلة

 

استشاط العمدة غضباً: الله يجطع كامل ابو الحجاج على جميلة عليكو وعلى امكو في ساعة واحدة..اسمعوا انتو التنين, هي كلمة والأمر اتحتم, جواز اختكو من محمود ابو شاذلي هيتم ولو على جتتكو. مش عمدة نجع ابو المنصور الحاج ياسين اللي يعطي كلمة ويرجع فيها, واعملوا حسابكو ان العريس وناسه جايين يوم الجمعة بعد العشا, جهزوا حالكو عشان تحضروا

 

رد أشرف الكبير بغضب: لانا ولا خوي طايع هنحضروا يا بوي ولا هنشاركوا في ظلم اختنا

 

أبرق العمدة وأرعد: جنيت يا واه! كيف تتجرأ وتجف جدامي وتكسر جولي!

 

خفض أشرف جناحه لوالده وقال: يا بوي آنا ما اجصدش اكسرلك جول لكن...

 

ما لاكنش. آنا ما اتخلجش اللي يكسر كلمتي, انت وخوك هتجابلوا الناس احسنها مجابلة وكفكو تتمدلهم بالسلام جبل كفي ورجلكو فوج رجبتكو. والحديت ديه ليكو ولامكو من جبلكو..سامع منك له

 

رد الشابان باستسلام والقهر يعتصرهما: أمرك يا بوي

 

*******************************

بلغ سهام اخفاق أخويها في الأمر فتصدع قلبها حزناً وانهمرت سيول الحزن من عينيها وملأ النحيب والنشيج جنبات غرفتها, فاحترق قلب الأم وأغرقتها العبرات وهي تحتضنها مواسية: بتي, اسم الله عليكِ من البكا والحزن يا سهام

 

همليني لحالي يا امّا, همليني ابكي على نصيبي مع واد الحرام ديه

 

يا بتي هتموتي نفسك من الحزن

 

ياريت اموت وارتاح يا امّا.. والله لو ما كان جتل النفس من الكباير لجتلت نفسي

 

اتسعت حدقتا الأم وأمسكت بها مرتجفة راجية: لاه, لاه يا سهام, أوعاكِ تفكري في كديه, أوعاكِ من غضب ربك يا بتي

 

ما تخافيش يا امّا, عمري ما هعصاه ولا اغضبه..داعياه يفك كربي ويرفع الحزن اللي شج جلبي شج

 

يارب يا بتي, يارب...حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا ياسين 

******************************

دلف مصطفى إلى مندرة بدران مكظوم الوجد واجما, فرمقه يجلس بين رجاله بنارجيلته يتسامرون ويضحكون وسعداوي يجلس إلى أقدامه ليضيف أحجاراً مشتعلة إلى النارجيلة..فشق ضباب الأوار وحيا بدران بصوت حزين: سا الخير يا بوي

 

توك ما افتكرت يا مصطفى! شيعتلك مرتين عشان تاجي تتسامر معانا

 

تنهد بضيق وقال: والله البال مش رايج يا بوي

 

...واه! ومين ديه اللي يستجري يعكر بال مصطفى ابو جارحي!

 

أزاح بدران أحد رجاله من جواره آمراً إياه

 

جوم يا ضاحي خلي مصطفى يجعد جاري

 

أمرك يا ريس بدران..تعال يا مصطفى

 

جلس إلى جوار بدران وقد نكست الهموم رأسه..فنفث بدران أوار النارجيلة وسأله باهتمام: مالك يا مصطفى؟...لو ما عايزش تتحدت جدام الرجالة نطلعوهم برا

 

لاه..لا عايز اتحدت ولا رايد اعكر لساني بالمرار اللي في صدري

 

لهزه برفق قائلاً بتهكم: خبر ايه يا مصطفى! فجدت مالك ولا اتهدم دارك!

 

اكتر يا بوي....ريت امي النهاردة

 

انفجر ضاحكاً وسحب أنفاس النارجيلة ثم نفث أوارها قائلاً: بجى داخل علينا موطي راسك كيف اللي جاموسته وجعت في الترعة وناجص يولول عليها عشان ريت المرة اللي واكلة ناسها ديّ هاهاااا...وايه اللي فكرها بيك العفشة بت العفش ؟

 

.....جوزها رماها وما لاجية دار تتاويها

 

سحب أنفاس النارجيلة وأخرجها ثم قال: ممم وطبعا جاية ديلواك تجول وكلني وتاويني يا ولدي

 

انتفض عن مقعده فجأة كالرعد يكيل السباب والوعيد لوالدته: مرة فجرها فاج فجر الغوازي. رمت ولدها عشان تتنعم في فرشة راجل, ولما كبرت وراح زمانها وبجت كيف الجيفة النتنة رماها, وديلواك جاية تجول ولدي آآآآآخ آآآآآخ من الحريم وطبعهم الردي. كرهت الحريم كلاتهم بسببها المرة ديّ, ولو حكموني عليهم اجتلهم كلهم بيدي واخلص الدنيا منيهم

 

نظر بدران إلى وجوه الرجال ذات الملامح الفظة وحواجبهم الكثيفة المتدلية على أشفار أهدابهم وقال: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم, عايز تجتل الحريم اللي بيهونوا علينا العيشة بالحظ والفرفشة وتهملنا الاشكال اللي تغم النفس ديّ يا مصطفى!

 

انفجر الجميع بالضحك بينما ابتسم مصطفى وهدأ بعض الشيء, فأومأ له بدران بالعودة إلى الجلوس, جلس وعيناه قد غابت مع ذكرياته في زمان بعيد.. وقال بأسى وهو يخال وجه والده أمامه: يا ريتها كانت هي اللي ماتت وعاش بوي آآآآه اتوحشتك يا بوي

 

ارتبك بدران وسعل بشدة حتى احمرت عيناه, طاح بلي النارجيلة وزمجر في وجه سعداوي: ما عارفش تولع الحجر زين يا غشيم انت!

 

حجك عليّ يا ريس بدران, هسويلك ولعة زينة

 

بلا ولعة بلا ما ولعاش جوم جبر يلمك, وانتو التانيين جوموا, مبحلجين فيا ليه! جوموا فزوا

 

قام الجميع عدا مصطفى الذي أدار وجهه إليه وقال: ما رايدش مني حاجة جبل ما امشي يا بوي؟

 

....لاه يا مصطفى..جوم انت شوف مصالحك.. آنا هكمل الليلة عند وداد

 

هوصلك عاد

 

...لاه,,ما رايدش حد, هروح لحالي

 

حدج بدران بنظرة دهشة, لمحها فهرب بعينيه بعيداً وفزع عن مقعده ملقياً بعباءته على كتفه وغادر المندرة على عجل..فما دفعه لذلك إلا الهروب من النبش في سيرة خليل الجارحي, وكأنه يخشى أن تظهر الحقيقة على جبهته فيقرأها مصطفى فتكون الطامة الكبرى ...غادر مصطفى المندرة وقد غمرت قلبه فيوض الذكرى ..فالصخور إن جفت تشتاق إلى هدير الماء إذ حوته يوماً ثناياها

 

*****************************

حل مساء الذهاب لبيت العروس, وجاءت صفية بصحبة ولدها وأخيها, استقبلهم العمدة بحفاوة كبيرة وإلى جواره ولديه تعلو ملامحهما الكآبة والتجهم. جلس الجميع وفاض لسان العمدة بالترحاب وهو يوكز ولداه المتجهمين إلى جواره ليذيبا جليد العبوس: يا مُرحب بالست صفية ست النجع كلاته

 

هه تعيش يا عمدة

 

مُرحب بكابيرنا بدران بيه

 

يا مٌرحب بيك يا حاج ياسين

 

هه منور يا عريسنا عاد

 

بنورك يا حاج ياسين

 

دارت عينا صفية في المكان وسألت بلهجة تبكيت: وينها أم العروسة عاد! مش كان واجب تكون في استجبالنا!!

 

تنحنح خجلاً وقال: واجب يا ست واجب..باخيتة اصلها عم تتهندم عشان مجيتك العزيزة, اما اجوم انادمها, بالإذن عاد

 

مال على ولديه وهمس مصراً على أسنانه حنقاً: رحبوا بالناس على ما اجي يا واكل ناسك منك له

 

لم يكترثا بأمر والدهما وظلا كصنمين أخرسين مشيحين بوجهيهما عن الأضياف الثقلاء, ترشقهما نظرات الامتعاض من صفية وولدها

 

انطلق العمدة إلى غرفته مشحونا بالغيظ فألفى زوجته تسند يدها إلى خدها, يعتريها الهم والحزن وقد ارتدت أسوأ ما عندها من ثياب, فزفر وقال: جرا ايه يا باخيتة! شايلة الطين على راسك ولابسة هلاهيلك ليه! ديه توب تلبسيه ليلة خطبة بتك!

 

لوت شفتها وقالت: خطبة بتي!! يا حسرة جلبي

 

جاك وجع جلبك يا شيخة. جومي يا مرة البسي توب زين وافردي سحنتك اللي كيف سحنة البومة ديّ

 

واه! انت كماني هتتداخل في لبسي يا ياسين!! البس اللي البسه عاد, هملني لهمي الله يرضى عنيك

 

يا بوووي ع المرة لما تبجى فقر وحديتها يجيب الفقر. خليكِ بمنظرك العفش ديه, وجومي هاتي بتك عشان الست صفية جت هي وخوها وولدها العريس

 

آآآه يا مرك يا باخيتة. بتي من ليلة امبارح لا نامت ولا شافت النوم بعنيها, ومن وجتها لا حطت الزاد في جوفها ولا بطلت بكا, وبصريح العبارة كديه ما طايجاش تجابل عريس الشوم ديه

 

تطاير الشرر من عيني العمدة وأغلظ لها القول: اسمعي يا مرة يا سو انتِ, جدامك ربع ساعة بالكاتير وتكوني جايبة بتك في يدك وجاية ترحبي بالناس وإلا وحق جلال الله اكون مبيتها في جبرها ومحزن جلبك عليها

 

شهقت ووضعت يدها على صدرها, فخرج وصفع الباب خلفه, فتنهدت وقالت بأسى: عيني عليكِ يا سهام يا بتي

 

******************************

عاد العمدة مرتبكاً إلى أضيافه وقال للأبصار المعلقة به: العروسة وامها جايين ديلواك. اتفضلوا فاكهة اتفضلوا, الدار داركو وانتو مش اغراب

 

نادى على الخدم

 

الشربات يا بت منك ليها

 

أمضى العمدة الدقائق في اضطراب شديد. يستمع بعقل نصف مغيب لأحاديثهم وعيناه تروح وتجيء  بين الفينة والفينة ترقب الباب..وأخيراً بدت زوجته وابنته فتنفس الصعداء وقال متهللاً: أها العروسة جت أها

 

دلفت زوجة العمدة تلتصق بابنتها الواجمة وعلى وجهها آكام من عبوس يلفت الأنظار,وكأن كل منهما اتخذت من الأخرى جداراً تستند إليه خشية أن تسقط. ألقت تحية باهتة: سا الخير عليكو

 

قامت إليها صفية متهللة, قالت ناظرة إلى الفتاة: سا الخير والسعادة يا ام العروسة

 

أزاحت صفية والدة العروس  التي وقفت كحائل بينهما,وجبذت العروس إلى صدرها تقبلها وتبث كلمات الثناء: اسم الله على عروسة ولدي الف اسم الله, جمر يا سهام جمر..محمود اتطلع لعروستك وشوف نجاوة امك اللي تليج بيك

 

ابتسم بمكر لوالدته, فقد أدرك مغزى عبارتها التي تلومه على سوء اختياره الأول لورد سليلة الفقراء..حقاً العروس سليلة حسب ونسب, ولكن جمالها محدود ومألوف ككثير من الوجوه..نظر إلى عروسه فابتهج وسر ناظريه لأنه خالها ورد بجمالها الأخاذ..ولكن الجمال مكلل بحزن دفين..أطال نظرة شوق إليها مستغرقاً في الخيال, فوكزته أمه فسقط من أعلى رابية الخيال, فإذ بالعروس مألوفة الملامح أمام ناظريه, فابتئس وجال سؤال بخاطره: ليه الدنيا دي كديه! ليه اللي اختارتها عيني واتربعت في جلبي ما كانتش بت عمدة شريفة عفيفة من أصل عالي وتختارها امي! ليه يا ورد اتولدتي فقيرة وبعتِ عرضك عشان المال! ليه! يجطع الفقر والفجر اللي وجع بيني وبينك

 

زفرت والدته وجلست إلى جواره ومالت إلى اذنه تدمدم سباباً: جرالك ايه يا واد المحروج انت! مالك عمال تطلع للبت نوبة تكشر ونوبة تضحك كيف المجانين, عفاريتك حضروا وعم ينططوك إياك!!

 

ايه يا امّا في ايه! عم اتطلع لعروستي..مش هتبجى مرتي!!

 

هه عجبتك؟

 

.....طالما عاجباكِ خلاص يا امّا

 

هه عاجباني اومال. بت أصول مأصلة

 

نظرت صفية إلى الفتاة التي جلست إلى جوار أمها منكسة الرأس وقالت: تعالي اجعدي جنبي يا سهام

 

نظرت الفتاة إلى والدتها فلم تومئ لها بأي شيء, فأمرها والدها: اجعدي جنب الست صفية يا سهام

 

قامت الفتاة بتثاقل فجذبتها صفية واجلستها إلى جوارها قائلة: ايوة كديه اجعدي جنبي يا عروسة ولدي...واه ساكتة ليه اومال!

 

ردت والدتها بدلاً عنها: بتي عم تستحي

 

أطلقت صفية ضحكة ساخرة وقالت: هو عاد في بنيتا عم تستحي ديلواك!

 

زفرت زوجة العمدة وردت بضيق: البنيتا اللي أهلهم مربينهم ع الصون والعفاف والخوف من ربهم عم يستحوا عاد, وآنا ربيت بتي احسن رباية, وداعية ربنا تكون من نصيب اللي زييها ويكفينا شر ولاد الحرام

 

انتفخت أوداج صفية غضباً ونظرت إلى زوجة العمدة شزراً, فتدخل العمدة لإخماد البركان: محمود بيه زينة شباب النجع وما هنلاجوش احسن منيه

 

انفرجت أسارير صفية وقالت وهي تنظر إلى زوجة العمدة نظرة كيد نسائية: واحنا اختارنا سهام لاجل خاطرك الغالي عندينا يا عمدة

 

تسلمي يا ستنا, تسلمي

 

مال العمدة إلى أذن ولده الكبير أشرف وقال حانقاً: وانت واخوك هتفضلوا مبحلجين في الأرض وساكتين كيف الحريم اللي بختهم مال!!

 

واه! حضور وادينا حضرنا بالغصب, رايدنا نسوي ايه تاني يا بوي!

 

اتحدتوا مع العريس وخاله, خليهم يحسوا اني خلفت رجالة مش تلات حريم

 

زفر غيظاً وقال: أوامرك يا بوي...منورين عاد..نحضروا عشا يا عريس ولا هتتعشى عند وداد؟

 

سدد إليه محمود ووالدته نظرة من جحيم مستعر, فوكزه والده وقال بغيظ: جوم يا واكل ناسك انت وخوك روحوا المشوار اللي جولتلكم عليه

 

انطلق أشرف وطايع من المجلس دونما استئذان بعدما أدركا كذبة والدهما بغية إبعادهما عن المجلس تتبعهما نظرات الغضب من عيني صفية وولدها, همت سهام باللحاق بهما, فأمسكت صفية بذراعها وقالت: على وين اومال يا عروسة ولدي! اجعدي اما البسك دهباتك عاد

 

جلست الفتاة قهراً, فقالت صفية لولدها باسمة: هات علبة الدهبات عشان نفرجوا العروسة وامها خليهم يرجصوا على سعدهم

 

أعطاها محمود علبة الذهب المخملية الحمراء الأنيقة وقد فتحها فانعكس بريق الذهب في الأعين, فوضعتها صفية أمام الفتاة التي أشاحت بوجهها وقالت: انضري دهباتك حلوين كيف يا سهام! مافيش بت في نجع ابو المنصور ولا النجوع اللي حوالينا ولو كانت بت مين جاها ربع اللي جاكِ

 

لم تأبه سهام بحديثها أو تنظر إلى الذهب, فامتعضت صفية وقالت حانقة: واه! ما عايزاش تنضري لدهباتك ليه!

 

ابتسمت زوجة العمدة وقالت تكيدها: الدهب يزغلل عين المحروم منيه. وبتي رباية عز والدهب مرمي تحت اجدامها

 

نشب الغليل في قلب صفية فتبدى على ملامحها, فرد بدران: صُح يا ست باخيتة, وعشان هي رباية عز اختارناها لولدنا

 

تنهدت ولاذت بالصمت, فقام العمدة يتصنع انه ما نهض إلا لينادي على الخدم, فأمرهم بإحضار الحلوى واتجه إلى زوجته ومال إلى أذنها قائلاً بتأفف: وبعدهالك يا مرة انتِ! ما تلمي لسانك اللي اطول من الليلة السودة ديه

 

عاد إلى مقعده يبث الشكر إلى صفية: الدهبات زينة ومليحة جوي يا ست صفية, من يد ما نعدمهاش

 

فقال محمود مفاخراً: الدهبات جبتهم من اكبر محل دهب في المركز, وما همنيش الفلوس, احنا الفلوس عندينا كاتير, وطلبات العروسة كلها مجابة, تشاور بس ع اللي رايداه يكون عندها

 

 هندم ياقته باسماً وسأل  العروس: طلباتك ايه عاد يا سهام؟

 

ردت منكسة الرأس: ماليش طلبات

 

حتى لو مالكيش, هتلاجي اللي ما تحلميش بيه معاي, وبكرة تنضري بعينك

 

استدار إلى والدته وقال: لبسيها الدهبات يا امّا

 

هه أمرك يا عريس عاد

 

طفقت تخرج الذهب قطعة قطعة وتلبسها للفتاة, ومحمود يعلق بصره بها ويخالها ورد بوجهها الفتّان فيتبسم ويمني نفسه بيوم عرسه..فرغت صفية  وقبلت الفتاة التي ازدانت بالذهب وهنئتها: مبارك يا عروسة ولدي, ربنا يكتبله السعد على يدك والخلفة الزينة منيكِ

 

انفجرت الفتاة بالبكاء وانطلقت تجري من المندرة وسط ذهول العريس وأهله, فأسرعت والدتها خلفها, فسأل بدران والدها بوجوم وغلظة: بتك مش موافجة على ولدنا ولا ايه يا عمدة؟

 

تلعثم العمدة: آآآك..كيف تجول كديه يا بدران بيه! البت موافجة من ساسها لراسها..لكن تجول ايه في جلع البنيتا عاد! مستحية, مستحية يا بدران بيه, طب دي حتى طول الليل امها تطبل وهي ترجص من الفرحة..منورين, منورين وربنا يعدي الجوازة ديّ على خير...نجيبوا العشا؟

 

قامت صفية عن مقعدها ومن معها استعدادا للمغادرة وقالت: مالوش لزوم يا عمدة, جهزوا بتكو عشان دخلتها على ولدي الخميس الجاي, نكتبوا الكتاب ونمضوا عجد الأرض جدام الشهود عاد. جهزوا الدبايح واحنا كمان هنجهزوا, دول تلات ليالي ومحتاجين دبايح من غير عدد, ديه عِرس محمود الغالي

 

هه ع البركة يا ستنا ع البركة , ربنا يتمم بخير عاد...آآآ لكن مجلس الرجال هنعجدوه ميتى بخصوص سلام ابو مطاوع وواد خوه, ما رضيتش ازعلك واجولك ان سلام بيه شيعلي ناس هنيه بعد صلاة الجمعة في الضهر عشان يعرفوا المعاد ميتى

 

هه ممم وآنا ايه يزعلني ولا يهزني عاد! جولهم يوم التنين بعد صلاة العشا, وكامل هيكون اول الحاضرين عاد..بس اسمع يا عمدة, من الصبح تاجيني عشان نرتبوا كلامنا مع كامل

 

وماله يا ست, من الصبح اكون عندك

 

خرجت من بيت العمدة وخلفها شقيقها وولدها..وكان عمر أو حجاب بمبخرته بعيداً يرقب الجميع ويتهيأ لأمر قد عزم عليه ...مضى يترنح وينشر عبق البخور متظاهراً أنه لم يرمق صفية التي تبسمت حين رأته هائماً في دنياه ومضت في طريقها تفكر في المجلس الذي تحتم انعقاده وما ستحيكه من حيل وأحابيل

 

 

**********************************

 

ولحد هنيه وخلصت حلجتنا

 

اشوفكم السابوع الجاي ان شاء الله

 

جزيل الشكر لكل من يهتم بالتعليق على الحلقات وجزيل الشكر لمن يقرأ وينصرف بهدوء

 

لا تنسوا ذكر الله والصلاة على الحبيب عليه الصلاة والسلام

 

لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد