الحلقة الحادية والعشرون الفصل الثاني الجزء الثاني الليل والدوادي

 

كانت أصوات المزامير خارج بيت العمدة تختلط بنشيج العروس داخله, فقد كانت جالسة في غرفتها وقد بللت عبراتها ثوب العرس فتخضب بسواد الكحل الذي مازج الدموع وسط صديقاتها اللاتي التففن حولها مواسيات تعلو وجوههن الأحزان, فتحت الأم الباب ودلفت فتفتت كبدها, هرعت إلى ابنتها تحتضنها وقالت للفتيات: هملونا وحدنا ديلواك يا بنيتا

 

خرجن فاختلت بابنتها وقالت بنبرة شفيقة: وبعدهالك يا سهام! الناس تجول ايه لما يوعولك باكية كديه!

 

انتفضت الفتاة عن مقعدها صارخة: يجولوا ما رايداهوش يا امّا, يجولوا تجبل الموت ولا تجبلوش يا امّا, يجولوا بوها ظالم وغاصبها عليه يا امّا

 

اقتحم العمدة الغرفة ثائراً ينادي باسم ابنته: سهام, خلي ليلتك تعدي وإلا هيكون حسابك عسير. البت اللي تعصى أمر بوها تبجى بطن الارض اولى بيها

 

جولتك اجتلني يا بوي, الموت اهون من العيشىة مع الكلب ديه

 

استشاط والدها غضباً وصفعها صفعة مدوية صارخاً فيها : اخرسي

 

صرخت الفتاة ووالدتها, قالت الأم بقلب يصطلي وهي تحتضن ابنتها: كمان عم تمد يدك وتضربها, ما مكفكش الحزن اللي هي فيه!

 

بتك اللي عاشجة الحزن وكارهة الفرح. بت زييها ورايحة على دنيتها الجاديدة الأصول الضحكة تكون مالية وشها وعم ترجص على سعدها, لكن ديّ وش فقر

 

فجأة سمعوا صراخ وجلبة , ففزعوا جميعاً إلى النوافذ فإذ بالهرج والمرج وأصوات متداخلة تقول: العريس اتجتل

 

فغرت الدهشة الممتزجة بالفرح فاه الفتاة, وتلألأت نجام السعادة في عينيها, بينما هرع العمدة فزعاً إلى الخارج يتبين الأمر.فخرت الفتاة ساجدة شكراً لله, ثم قامت تقفز فرحاً كالأطفال وتقبل والدتها ذات اليمين وذات اليسار,قالت وقلبها ينشد تراتيل السعادة: ربنا استجاب لدعايا يا امّا وخلصني من اللي ما يتجي ربه ديه

 

قالت الأم جذلة وقد ضمت فتاتها إلى صدرها: الحمدلله يا بتي, الحمدلله يا سهام, ربنا يكفينا شر ولاد الحرام

فجأة انقطع التيار الكهربي عن القرية بأكملها فعم الظلام المخيف فتخبط الناس وتعثرت خطاهم

 

***********************************

حمل أهل القرية المشاعل والتفوا  حول جسد محمود المضرج في دمائه على ذات الأرض التي سقط عليها الدكتور عزت زوج جميلة صبيحة عُرسه مذ أكثر من عشرين عاما, منهم من ينظر بأسى ومنهم من يضرب كفاً بكف ومنهم من أطل التشفى من عينيه, انفجرت صرخات مدوية فالتفت الجميع, إنها صفية جاءت حاسرة الرأس ذبيحة الفؤاد تزيح الجميع عن طريقها حتى بلغت جثة ولدها فخارت قواها وجثت على ركبتيها كجبل قد هوى, ظلت تنظر إلى ولدها ذاهلة,جلست إلى جواره ورفعت رأسه عن الأرض تحدثه كالملتاثة ودموعها تسيل: مين سوى فيك كديه يا محمود, انطج, رد على امك يا ولدي, مين سوى فيك كديه

 

وضعت رأسه في حجرها وشقت جيبها ولطمت خديها صراخاً وعويلا وقد لطخت دمائه ثوبها الوردي..شعرت بيد تربت على كتفها فرفعت رأسها فإذ به حسن  يحمل مشعلاً ويذرف الدموع, فتشبثت بيده وصرخت: خوك انجتل ليلة عُرسه يا حسن, تار خوك في رجبتك جبل رجبتي يا حسن, تار خوك في رجبتك جبل رجبتي

 

نظرت إلى جثة ولدها بقلب منفطر وصرخت: ولدي, وأخذت تهيل التراب على رأسها فتعفر وجهها وأخذت في اللطم فزجرها حسن: حرام يا امّا اللي عم تسويه ديه, حرام

 

واللي سووه في خوك مش حرام! مش حرام يا حسن!!

 

انتصب العمدة أمامها وقال بصوت هادر: شدي حيلك يا ست صفية, الدوام لله وحده

 

صرخت في العمدة: لاه, ما هجبلش عزا جبل ما اخد تار ولدي. سامع يا عمدة, سامعين كلكم؟ سامع يا حسن؟؟ النوم عليك حرام جبل ما تاخد بتار خوك

 

نظر حسن بأسى ومد يده لينهضها فأطاحت بيده صارخة بعناد: لاه, مش صفية اللي تجوم متسندة, صفية شاديدة وهتنها شاديدة وما تتسند على مخلوج لحد ما تموت, بعّد يدك, بعّد يدك عني, بعّدوا كلكو

 

*************************************

كان بدر لا يزال يشق طريقه إلى ورد وسط الزراعات مرتعداً مرتاعا يتصبب عرقاً, يصاحبه صوت أنفاسه المضطربة  ودوي خفقات قلبه المرتعب وخشخشة الزروع..وقت عصيب يقطعه إليها نحو مصير مجهول...كانت هي تنتظره متوارية خلف شجرة فوق ساقي الخوف المرتجفة, تمسك ذات البؤجة المصرة التي دخلت بها إلى القرية لأول مرة, غير أنها الآن تكتظ بالذهب, ترقب الطرق حولها بعينين زائغتين وتهمس, اتأخرت ليه يا بدر..تمر اللحظات كجبال من جحيم على صدرها, تفترس عقلها ويلات المصير فترتعش وتتصبب عرقا...ظلت على حالها المرثي إلى أن عبرت مسامعها سعلة متحشرجة فالتفتت فإذ به بدر جاءها لاهثاً شاحب الوجه مرتعداً يرقب الطرقات حوله, قال بصوت منهك: نفذت اللي أمرتي بيه وجيتك بمهرك يا ورد

 

شعرت بالانتصار فبدت ابتسامة على محياها قائلة: تسلم من كل ردي يا راجلي... وين السلاح اللي جتلته بيه؟

 

ما مصدجنيش ولا ايه؟

 

لاه مصدجاك, نضرت الناس بعيني عم تجري من باعيد وعم يجولوا العريس اتجتل..وحتى لو ما نضرتهم بعيني, مصدجاك بجلبي يا بدر..سؤالي عن السلاح عشان اطمن عليك

 

اطمني, مسحت مكان يدي بمنديل ورميته وسط الزرع...ما هيعرفوش ان انا الجاتل..ديه لو عرفنا نهرب من النجع..حظنا الزين ان الكهربا جطعت

 

طب يلا نهربوا جبل ما الكهربا تاجي وينضرونا

 

ما أن هما بالهرب حتى شعر بدر بيد تقبض على كتفه فشهقا واتسعت حدقتاهما وكاد قلبيهما أن يتوقفا, التفتا فإذ به الشاب الملثم يوجه سلاحه صوبهما, فتجمدت الدماء في عروقهما, قال بدر بنبرة مرتعشة: انت مين؟

 

مالكش صالح. فوتوا جدامي انتو التنين

 

شهقت ورد مرتاعة وتشبثت بجلباب بدر وكأنها تحتمي به, فسأل بدربنبرة واجفة: انت مين وعايز منينا ايه؟

 

جولتلك فوت جدامي عشان اخرجك من النجع جبل ما الكهربا تاجي ويعرفوا انك جاتل محمود ابو شاذلي

 

شهقت ورد فنظر إلىها يبادلها نظرات الخوف والفزع, ابتلع ريقه وقال متعلثماً: آآآنا ما جتلتش حد

 

جولتلك فوت يا واد المحروج بدل ما يخلصوا عليك وعليها, فوت

 

نظر إلى ورد, فأومأت برأسها استسلاماً للمصير, ومضا أمامه مسرعان وقد تجمدت الدماء في عروقهما..فقد افتضح أمرهما, وبالتأكيد أن هذا الشاب جاء لتسليمهما إلى صفية لتقتص منهما شر قصاص لمقتل ولدها...وصلا إلى إحدى بوابات القرية والتي خلت من الحرس, فأمرهما بالخروج فازدادت حيرتهما, ولكنهما خرجا يتحسسان رقبتيهما, فربما المقصلة على أبواب القرية ..ظلا يهرولان وهو يتبعهما بسلاحه حتى ابتعدا عن البوابة..كانت هناك سيارة تقف في الانتظار ينبعث منها ضوء كشافات خافت..ظلوا يمشون إلى أن بلغوها. فأمرهما: اركبوا

 

توجسا خيفة وقال بدر: نركبوا ونروحوا على وين؟

 

على طريج السلامة يا بدر. الكابير أمرنا نخرجوك من النجع انت وورد تحت حمايتنا

 

....مين الكابير ديه؟ وليه يساعدني؟

 

ما تسألش عاد.. الكابير أمرلك كمان بمبلغ ما تحلمش بيه عشان تتجوز ورد وتبتدي حياتك من جاديد, وكمان سكن مستنظرك فيه المأذون والشهود عشان تكتب عليها تو ما توصل

 

....ليه ديه كلاته! ليه؟

 

جولتلك ما تسألش

 

آآآآطب وبوي وامي؟

 

هه وانت كنت فكرت فيهم عاد جبل ما تعمل عملتك! لكن اطمن, بوك وامك هما التانين تحت حمايتنا, وما حد هيعرف من الاساس انك الجاتل..يلا ما عندناش وجت نضيعوه معاك

 

أومأ بدر برأسه وفتح السيارة لورد فدلفت ولا تزال تتوجس خيفة, وركب هو إلى جوار السائق وانطلقت بهما السيارة وغيبتهما عن قرية الشقاء ..ما أن تم الأمر حتى عاد التيار الكهربي إلى القرية وعادت معه الوجوه المقيتة إلى الظهور

 

******************************

 

جلست صفية في بهو القصرذاهلة بملابس الحداد وقد عصبت رأسها بعصابة سوداء, تحفها النساء المتسربلات بالسواد وقد ملأن جنبات القصر بالبكاء والنحيب. فجأة انتبهت ونظرت إلى أعلى الدرج, فانتفضت عن مقعدها وانطلقت كالإعصار المخيف إلى الدور العلوي واتجهت إلى غرفة وطفة بعينين متقدة, فلمحتها عالية فهرعت خلفها خوفاً على أختها, اقتحمت صفية الغرفة فألفت وطفة تجلس على فراشها تنظر إليها بملامح باردة  فصاحت بها: ما نزلتيش ليه تواسيني في موت ولدي! انطجي..طلعي السواد اللي في جلبك, شمتانة يا بت حياة, واد صفية اللي كارهاها انجتل ليلة عرسه وانكسر ضهرها! مش كديه! انطجي

 

انقضت على الفتاة توقفها بغليلها, فهرعت عالية تطيح بيديها القابضتين على ذراع اختها, وصفية لا تبال غير بوطفة وأردفت حديثها إليها: شمتانة فيا يا بت حياة, شمتانة في المرة اللي اتجوزت بوكِ بعد امك الفاجرة..من يوم ما خطيت السرايا وانتِ كارهاني وكارهة تنضري في وشي, وانتِ اللي وجفتِ جصاد بوكِ عشان تمنعي جوازتي منيه. لكن اتجوزته غصب عنك وعن عمتك جميلة وعن كل اللي كارهيني. طول العمر اللي فات وجلبك جايد نار وياما اتمنيتِ طلوعي من السرايا مخزية كيف ما طلعت امك بعارها..لكن ما حُصُلش ونارك فضلت جايدة تاكل في جلبك..وديلواك وبعد السنين ديّ واد صفية اللي كارهاها اتجتل ليلة عرسه وجلبك مليان بالشماتة, مش كديه يا بت حياة! ..لكن لاه, لاه يا بت حياة, ما هنولكيش الشماتة ديّ. صفية جوية, جوية ما تنكسرش ولو مات لها بدل الواد ألف, ودي توب الحزن أها

 

شقت صفية ثوب الحداد وألقت بالعصابة السوداء أرضاً وحلت شعرها المعقوص فانساب على ظهرها بين ملامح وطفة الصامتة كالتمثال وذهول عالية. انطلقت من الغرفة,.فاستدارت عالية إلى شقيقتها وتبادلتا  نظرات صمت طويلة..كانت عالية تأمل أن تسمع كلمة من أختها تبقيها إلى جوارها ويتآزران, ولكن الصمت ضاق بها ذرعاً, فتنهدت عالية وهزت رأسها في أسى وغادرت الغرفة مغلقة الباب خلفها

 

 انطلقت صفية إلى غرفتها والشرر يتطاير من عينيها, لا تسمع لنداءات كامل باسمها يسألها عما دهاها في عجب, فوجدها تسرع إلى خزينة ملابسها وأخرجت ثوياً حريرياً مزركشا, نزعت ملابس الحداد ودهستها تحت نعليها وارتدت الثوب اللامع وانطلقت من الغرفة وتركت كامل يغشاه الذهول يضرب كفاً بكف على من طاش عقلها..بدت من أعلى الدرج أمام النساء في زينتها فشدهن وظلت أبصارهن معلقة بها حتى نزلت وصاحت بهن: جومي فزي من مطرحك يا مرة منك ليها, ولدي ما هاخدش عزاه غير لما انحر اللي جتله كيف الباهيم تحت رجلي, غوروا من هنيه, غوروا

 

خرجت النسوة يهرولن ويتخبطن وهمهمات الذهول تضج بها جنبات القصر

 

**************************************

 

جاء المحققون والباحثون إلى القرية لمعرفة الجاني ولكن جهودهم ذهبت سدى, فلا أحد يعرف قاتل محمود, ولو علم به أحد من المقهورين لن يشي به, فالجميع يعلم أنه القصاص العادل, والجميع يخبئ فرحه تحت سترته حتى لا تفضحه ملامحه .. ولكن صفية كانت تتيقن أن من فعل ذلك هم رجال صالح, ألم يتوعدوا بأن القادم أسوأ كما ذكر لها حجاب!! كانت تنتظر عودة مصطفى الجارحي إلى القرية على جمار الشوق

 

عاد مصطفى بعد أن قضى بعد المهام التي كلفه بها بدران, فالتقاه فأخبره بدران بكل ما كان من رجال صالح, سأل مصطفى مندهشاً: وعرفتوا من وين انهم رجالة صالح؟

 

واد من مجاذيب سمحون نضرهم ليلة حريج الشونة وجال لصفية

 

قهقه مصطفى ساخراً: مجاذيب سمحون!! خلاص هنلغوا عجلنا ونمشوا ورا حديت المجاذيب!! وحتى لو كان الحديت صُح, دخلوا النجع كيف واحنا عندينا علم بكل غريب يدخله!

 

ما خابرش

 

أخذ مصطفى يفرك ذقنه وتضيق عيناه وتتسع مع أفكاره, فسأله بدران:

 

شارد في ايه عاد؟

 

اسمع يا بوي, اللي عم يُحصل في النجع ديه لو وراه رجالة صالح صُح يبجى معناته انهم جوا النجع ما فارجوهوش..عايشين بيناتنا واحنا ما عرفينهومش

 

هز بدران رأسه استحسانا وقال: صُح يا مصطفى. مافيش غريب دخل النجع إلا وعندينا علم بيه, جه ليه ورايد ايه من النجع. عشان كديه عنديك الف حج إن رجالة صالح من ناس النجع

 

لازم نعرفوهم يا بوي, ووجتها يبجى ويلهم ويلين ..آنا رايد اشوف المجذوب اللي دل عليهم

 

اسميه حجاب, شيع هاته

 

أسرع مصطفى إلى الباب ونادى أحد الحراس: عبد التواب

 

جاءه مهرولاً: نعمين يا جناب البيه

 

خد معاك غفير تاني, واطلعوا على جامع ابو المنصور, هاتولي مجذوب من هناك اسميه حجاب, ما ترجعوش غير بيه

 

أمرك يا جناب البيه

 

 

****************************

ولحد هنيه وخلصت حلجتنا

 

اشوفكم السابوع الجاي ان شاء الله

 

نقترب من نهاية الحلقات . أسأل الله العلي القدير التوفيق لي ولكم في كل أمور الحياة

 

دمتم بخير

 

تحياتي لكم

 

لا تنسوا ذكر الله والصلاة على الحبيب عليه الصلاة والسلام

 

لا اله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد

 

 

 

***************************************