التاسعة( حارة الموعودين)

 

اتخذ طريقه إلى وكالة المعلم عدوي، حاملاً بؤجته خلف ظهره.. ترى  ما الذي تخبئه لك الأقدار يا عنتر!!

 

بلغ عنتر الوكالة، وقف امام البوابة تائهاً حائرا، يتفرس في وجوه عمال الوكالة المنحني الظهور والمائلي الأكتاف إذ هم يحملون  أجولة البضائع فوق أكتافهم  أو فوق ظهورهم، والعرق يتفصد من جباههم.. أضناه البحث فاتجه إلى أحد العمال الذي هم برفع جوال إلى ظهره، وسأله:

 

بجولك ايه يا ابو عمو، ما تعرفش وين همام واد دهشور؟

 

همام دهشور! قصدك همام الصعيدي؟

 

أي نعم يا واد عمي

 

همام راح يوصل بضاعة هو والرجالة

 

ما تعرفش هياجي ميتى؟

 

زمانه جاي، اصلهم راحوا من بدري، ساعة زمن وتلاقيه رجع هو والرجالة

 

ابتئس همام وقال ضائقاً:

 

يا بوي! ساعة بحالها!! دانا جاي من سفر وعايز ارتاح

 

طب اقعد استريح ع الكرسي اللي هناك ده، ده بتاع ريس العمال، وهو مش موجود دلوقتي

 

تمام. كتر خيرك يا ابو عمو

 

جلس على المقعد ووضع بؤجته أمامه، والجوع يعتصر أمعاءه.. صبر نفسه بقدوم قريبه والذهاب معه إلى بيت يأويه ولقمة تسد جوعه .. بعد قليل أتاه العامل الذي لقيه للتو ومعه رغيف و قرصين من الفلافل في يد، وكوباً من الشاي في اليد الأخرى.. فقلب الفقير على الفقير عطوف.. قدمهم إليه بلطف:

 

اتفضل يا اخويا، أنا قلت انت جاي من سفر بعيد وأكيد جعان

 

نظر إليه عنتر نظرة إكبار، وقام عن مقعده يقدم له الثناء:

 

كتر خيرك يا ابو عمو، والله صُح جعان ع الآخر، متشكرين

 

العفو ، عن إذنك

 

اتفضل

 

وضع عنتر كوب الشاي على الأرض إلى جوار أحدى قدميه، ولف الرغيف على قرصين الفلافل وانقض عليه بنهم... ما أن انتهى منه وهم بمد يده لكوب الشاي حتى دخل قريبه بصحبة بعض الرجال إلى الوكالة ، فانتفض عن المقعد وهرع إليه يناديه:

 

همام، همام يا واد عمي بالحضن

 

تفاجأ قريبه برؤيته، فوارى الضيق الذي شعر به خلف ابتسامة باهتة واحتضنه مرحباً به:

 

يا مُرحب يا واد عمي، شااحوالك وشاحوال النجع؟

 

رد بأسى بالغ:

 

والله أحوال النجع ما تسرش يا واد عمي. القحط زاد والجوع زاد ، والخلج هملت الأرض والزرع وهجوا من النجع، كيف ما هجيت وجيت لحديك، بوي جالي روح لواد عمك همام واد دهشور في حارة الموعودين ودور على رزجك

 

هه بوك جالك كديه!!  إياك فاكر يا واد عمي إن حارة الموعودين عم ترش علينا الجرشينات رش!! في حارة الموعودين الحال ما يسرش والخلج عم تشكي وتبكي من الفقر والجوع. بوك ظلمك لما شار عليك بالشورى العفشة ديّ

 

سدد إليه نظرة حزن وقال: يعني ايه يا واد عمي!

 

يعني تاخدها من جصيرها وتعاود النجع يا عنتر

 

رفع يده باعتراض وقال بحسم:

 

لاه، لاه يا همام، ما اجدرش أعاود لبوي اللي صحته راحت واجوله جيتك من غير تمن الدوا

 

يا عنتر يا واد عمي انت لو جعدت في حارة الموعودين انت كمان هيركبك الهم والمرض طالما ما معاكش فلوس

 

وليه تجدر البلا جبل وجوعه يا همام يا واد عمي!! ربك رزاق وخزاينه ما تنفدش. وأنا عشمي في الله كبير

 

ونعم بالله يا واد عمي

 

طيب شوفلي معاك شغلانة في الوكالة

 

قهقه الرجل وقال:

 

الوكالة زحمة بناسها كيف ما انت ناضر، وما فيهاش مكان لنفر زيادة.. وعشان تتأكد، تعال معاي لريس العمال نسأله

 

بينا يا خوي

 

تبع عنتر قريبه إلى مكتب رئيس العمال ، فلم يجده، فقال لعنتر:

 

استناني هنيه يا عنتر، هروح أدور على الريس عباس واجيك

 

ماشي يا واد عمي

 

وقف عنتر أمام الباب وشرد في الحال الذي دفع بع دفعاً إلى الحارة.. إبان شروده مر المعلم عدوي على مقربة منه إذ هو متجه إلى مكتبه منفرداً.. غضن حاجبيه واقترب منه يسأل بلهجة تعال:

 

انت مين ياض وايه اللي موقفك كديه؟

 

آنا عنتر خليل عنتر، جاي من الصاعيد أدور على شغل في الوكالة

 

هه عايز تشتغل عندي؟

 

تهلل وجه عنتر وقال:

 

هو حضرتك المعلم عدوي اللي عم نسمع عنيه؟

 

قهقه المعلم عدوي وبرم شاربه وقال شامخاً بأنفه:

 

احنا المعلم عدوي

 

انعم وأكرم يا معلم، آنا سمعت عنيك كاتير، ويشرفني اشتغل عندك

 

هه وماله. أنا اللي يشتغل عندي لازم أديله التحية وبعدين أشغله

 

هم المعلم عدوي بصفعه على قفاه، فأمسك عنتر يده بقوة وثبت نظرة حادة في عينيه وقال مصراً على أسنانه:

 

وآنا اللي يفكر يمد يده عليّ اجطعهاله مهماّ يكون مين، أنا عنتر واد خليل عنتر، ما اتخلجش ولا هيتخلج اللي يذلني ويوطي راسي

 

أطاح بيد المعلم عدوي بعنف وولى مدبراً، فاشتعل وجه المعلم عدوي بحمرة الغضب، وظل ينظر حوله خيفة أن يكون هناك رقيب لما حدث له، فتكسر هيبته، فتيقن أن لم يره أحد، فاطمئن قلبه واتجه إلى مكتبه وقلبه يستعر غضباً من فعلة هذا الشاب الصعيدي الذي حّفرت ملامحه في ذاكرته

 

دلف إلى مكتبه شارداً فيما حدث، وما أن جلس حتى هاتفته ميسون، ففاق من شروده ورد بنبرة فاترة:

 

ايوة يا مرسون

 

ههه مارسون برضو! ماشي، على العموم بكرة تحفظ اسمي، كنت متصلة أقولك هنروح امتى نشتري بدلة الفرح؟

 

بدلة الفرح بتاعة مين؟

 

بتاعة مين ازاي يعني! بتاعتك انت طبعاً

 

ههه بدلة! انتِ عايزة تهزئيني بين الناس يا مرسون! المعلم عدوي يلبس بدلة!! عجبت لك يا زمن

 

الله! اومال هتحضر فرحنا بإيه! لا اوعى تكون هتحضر بالجبة والقفطان والطربوش

 

رد باحتداد:

 

ايوة يا مرسون، المعلم عدوي ما يتغيرش عبر الزمان ولا حرمة تقدر تغيره مهما امتلكت من حسن يا ست الحسان، ولازم تفهمي طبعي كويس، أنا اللي بأمر والكل يطيع، لا احب حد يأمرني، و لا حد صوته يعلى على صوتي.. إذا كنت طاوعتك في الحاجات اللي طلبتيها، فده عشان انتِ عروسة جديدة ومن حقك تدلعي.. طلبتي فستان من بلاد برا، جبتهولك بإشارة من صباعي، طلبتي شقة في جيمي لاند، جبتلك أحلى شقة وأغلى فرش، ده غير الشبكة الألماظ اللي طلبتيها.. إنا بالنسبة لك مصباح علاء الدين، تطلبي تجابي، لكن تفكري انك ممكن تغيريني، هطلعلك العفريت من المصباح ينططك

 

ايه ده ايه ده! هو حصل ايه لده كله يا عدوي، كل ده عشان قولتلك تلبس بدلة! خلاص يا سيدي بلاش ههه أنا بحبك زي ما انت، واعمل اللي على مزاجك واللي يريحك يا حبيبي

 

ههه ايوة كدة احبك

 

ممم طيب مش هنسافر أوروبا نقضي شهر العسل يا عدوي يا حبيبي؟

 

شهر عسل ! ليه! فاكراني شاب بايظ ودادي بيصرف عليا! أنا راجل ورايا مصالح وأشغال يا مرسون، لو غيبت عنها الغيلان ياكلوها

 

كدة! يعني مش هنسافر أوروبا ولو حتى اسبوع! أنا مخاصماك

 

ههه لا وانا ما يرضنيش، خلاص، نسافر أوروبا يا ستي عشان خاطرك ونقعد اربع تيام بحالهم في أي بلد تختاريها

 

اربع تيام! خلاص وديني إيطاليا، نفسي قوي أشوف برج بيزا  والكولوسيوم  وقلعة سفور زيسكو

 

قلعة مين! ومالها قلعة صلاح الدين في القاهرة ولا قلعة الحاج قايتباي في اسكندرية! هما اشتكوا مننا في حاجة وقالوا ماحدش يجي عندنا! ولا هي عقدة خواجة وخلاص!

 

الله! انت هترجع في كلامك ولا ايه!!

 

لا يا مرسون مش هرجع في كلامي، هوديكِ بلاد الخواجات وافرجك عليهم وعلى كل اللي طلبتيه.. عشان تعرفي غلاوتك عندي.. حريمي التلاتة عمرهم ما شافوا غير اسكندرية وراس البر، انتِ الحرمة الوحيدة اللي عبرت القارات

 

ههه جراتسي عدوي

 

***************************************

قبل أن تشرق شمس الصباح، حملت نعمة الملف الذي يحوي أوراق مؤهلاتها، واتجهت إلى مدرسة الطبقة الثرية وقلبها يتأرجح بين الخوف والرجاء, ولسانها يلهج بالدعاء. تنقلت بين عدة وسائل للمواصلات حتى تتمكن من الوصول إلى مقر المدرسة الكائن في تجمع راق لذوي المال والنفوذ.. أخيراً تمكنت من الوصول إلى المبنى الهائل الحديث الطراز.. لأول مرة في حياتها ترى مدرسة بهذه الفخامة.. فعيناها معتادة على تلك المدارس ، ذوات المباني القديمة والبسيطة التي يرتادها أبناء الفقراء ويقضون أوقاتهم في حجر الدراسة المقبضة جالسين على مقاعد خشبية متهالكة.. لذا كانت عيناها تدور دهشة في الأرجاء حولها.. كانت في استقبالها فراشة المدرسة والتي ترتبط بواصلة قرابة مع صديقتها رانيا

 

انتِ أكيد مس نعمة

 

ايوة أنا، يبقى أنتِ أكيد قريبة رانيا

 

ايوة،أنا أمينة، ابقى بنت خالة امها لزم، رانيا قالتلي استناكِ. لكن انتِ اتأخرتِ كدة ليه؟

 

غصب عني والله، المواصلات صعبة والمدرسة بعيدة قوي، طب والله دانا يادوب صليت الفجر ونزلت اجري

 

طيب بقولك ايه، لو اتقبلتِ في الوظيفة دي، ما تنسنيش في الحلاوة

 

من عنيا حاضر، بس استنيني لما اقبض أول مرتب، عشان أنا حالياً، يا مولاي كما خلقتني هههه

 

خلاص اتفقنا، طيب يلا تعالي بسرعة، مس كريمان مستنياكِ

 

مس كريمان مين؟

 

دي صاحبة المدرسة والمديرة بتاعتها

 

اه، طيب يلا. توكلنا على الله

 

عند باب مكتب المديرة، قالت الفراشة لنعمة:

استنيني هنا على ما ادي خبر لمس كريمان

 

حاضر

 

دقت الفراشة الباب

 

مس كريمان

 

ادخلي

 

دخلت على المديرة الخمسينية الأنيقة ذات الشعر المصفف باحترافية، وقالت:

 

صباح الخير يا مس كريمان، مدرسة الموسيقى وصلت

 

ردت باحتداد:

 

حقيقي أنا قلقانة من مدرسة موسيقى تجيلي من ناحية فراشة المدرسة

 

هه جربيها يا مس كريمان، لو ما نفعتش مشيها

 

أوف، مضطرة أقابلها، لازم أسد الفراغ بأي مدرسة موسيقى لحد ما تيجي مدام رفايلا خوان بابلو

 

مين؟؟

 

رفايلا خوان بابلو. مدرسة الموسيقى الإسبانية اللي متعاقدين معاها.. هي مدرسة الموسيقى اللي انتِ جايباها اسمها ايه؟

 

بهتت الفراشة، وغمغمت:

 

استر يارب، شكل البنية اترفدت من قبل ما تتعين

 

أعادت المديرة السؤال باحتداد:

 

بقولك اسمها ايه؟ اتخرستِ!!

 

آآآ نعمة

 

اتسعت حدقتا المديرة وقالت:

 

ايه! نعمة!! لالالا، اسم غير مقبول خالص، أقدمها للولاد ازاي! خليها تمشي

 

يا مس كريمان قابليها واديها فرصة. دي جاية من مكان بعيد

 

أوف، مضطرة أقابلها، خايفة أمشيها اتعرض لثورة أولياء الأمور بسبب إن دروس الموسيقى لحد دلوقتي ما بدئتش، ووقتها يحصل مشاكل كتير

 

ربنا ينصرك على من يعاديكِ يا مس كريمان

جعدت وجهها وقالت باشمئزاز:

 

ايه ده! ايه نمط الكلام المتدني ده! ايه! فاكرة نفسك شغالة في سويقة! انتِ في مدرسة راقية فيها أولاد الصفوة. يلا امشي من وشي وهاتيلي اسمها ايه دي خلينا نخلص

 

حاضر يا مس كريمان

 

عادت لنعمة تقول:

 

يلا جمدي قلبك وادخلي يا مس نعمة

 

توكلنا على الله

 

دخلت نعمة على المديرة بخطوات وئيدة ووجه مضطرب، وقد أخذتها الرجفة مهابة السيدة.. ألقت تحية بصوت مرتعش:

 

صباح الخير

 

طالعت المديرة هيئتها بازدراء وقالت:

 

إنتِ بقى مدرسة الموسيقى الجديدة!!

 

هه إن شاء الله

 

ايه الملف اللي معاكِ ده؟

 

ده يا فندم الملف اللي فيه كل شهاداتي ومؤهلاتي

 

إنت خريجة ايه؟

 

أداب فلسفة

 

وايه علاقتك بالموسيقى؟

 

صوتي حلو ههه وكمان حافظة السلم الموسيقى كله، دو، ري، مي، فا، صو، لا، سي، دو

 

مم وريني بطاقتك

 

أخرجت نعمة البطاقة وهرعت إليها تعطها إياها:

 

اهيه يا فندم، اتفضلي

 

أمسكت البطاقة بتعجرف، وأخذت تطالعها باشمئزاز وقالت بقرف:

اسمك نعمة رزق!! ايه الإسم ده!!

 

هه معلش يا فندم، سامحيني وسامحي بابا

 

 

 عادت تطالع البطاقة الشخصية وقالت بضيق حين وقعت عينها على العنوان:

 

حارة الموعودين!! وايه يجيب واحدة من حارة الموعودين تشتغل في مدرسة كارمنيوس اللي فيها أبناء الطبقة العليا!!

 

يا فندم مالها حارة الموعودين بس! والله يا فندم مش كل حاجة في الحارة وحشة، الحارة دي طلعت عباقرة وعلماء وأطباء ومثقفين ومفكرين و..

 

أشارت المديرة بيدها وقالت بامتعاض:

خلاص، خلاص.. أنا ما اقدرش أقدمك للولاد بإسمك الصعب ده. أنا هقدمك بإسم مس ناني عشان يبقى لايق بمدرسة الموسيقى في مدرسة كارمنيوس

 

ناني!! وماله يا فندم، اهو ينفع دلع لنعمة برضو ههه خلاص، أنا مس ناني

 

إيه الآلة الموسيقية اللي بتجيدي العزف عليها؟

 

اتسعت حدقتا نعمة وقالت:

 

آلة موسيقية!

 

ردت المديرة باحتداد:

 

ايوة، بيانو، هارب، جيتار، فلوت، تشيلو

 

تشيلو!! لا هو إحم إحم، أنا في الحقيقة بعرف أغني بس، لكن ماليش علاقة بالآلات الموسيقية

 

تنهدت المديرة وهزت رأسها وقالت بامتعاض:

 

أوكيه، أوكيه، كفاية الغنا في الفترة الحالية. أنا أصلاً مش عايزة الطلبة يتعلموا موسيقى إلا من مدام رفايلا خوان بابلو

 

مين!!

 

مدرسة الموسيقى الإسبانية، اللي للأسف حصلها ظروف منعتها تيجي في معادها ولغت حجز الطيارة. أصلها اتخانقت خناقة كبيرة جداً مع جوزها عشان اكتشفت انه سافر مع صديقته على ميلانو في إيطاليا، فلغت نزولها إيجيبت عشان تسافر وراه وتطين عيشته

 

يا كبدي يختي!! مافيش حد مرتاح في الدنيا، اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته

 

صاحت بها المديرة:

 

ايه اللي بتقوليه ده! كبدك ايه وبنكرياسك ايه يا بني أدمة انتِ!! لالالا مش ممكن، حقيقي مش ممكن المستوى ده، هنا مدرسة الكلام فيها بالإنجليزي والإسباني والإيطالي. تعرفي أي لغة فيهم؟

 

ممم بصراحة ولا واحدة، بس يعني عندي كام كلمة من كل لغة ممكن أمشي بيهم حالي لحد ما مدام فانيلا دوبلو تيجي

 

أوووه، اسمها رفايلا خوان بابلو، رفايلا خوان بابلو

 

حاضر، حاضر، رفايلا خوان بابلو

 

طيب يلا تعالي ورايا عشان تبتدي أول درس مع أول كلاس

 

ورا حضرتك اهو

 

تبعت المديرة إلى أحد الفصول الدراسية للصف الثالث الإبتدائي، وقف التلاميذ فحيتهم المديرة بالإنجليزية

 

جود مورنينج

 

جود مورنينج مس كريمان

 

أحب أقدملكم مس ناني مدرسة الموسيقى

 

التفتت إلى نعمة وهمست

 

حيي الولاد وقوليلهم يقعدوا

 

اقعدوا يا ولاد

 

ظل التلاميذ واقفون يرمقون إليها النظر في صمت، فأصرت المديرة على أسنانها وهمست:

 

قوليلهم يقعدوا بالإنجليزي، اقعدوا يا ولاد دي تقوليها لعيال حارتكو

 

حاضر يا مس كريمان... سيت دون سويتيز

 

جلس التلاميذ، فابتسمت لها المديرة وهمست:

 

طيب ما انتِ كويسة اهو

 

الحمدلله يا فندم، إن شاء الله اديني فرصتي وانا هبهرك

 

طيب يلا قدمي نفسك وابدأي غني معاهم غنوة لطيفة عشان أطمن وأروح أشوف شغلي

 

أومأت نعمة برأسها امتثالاً للأمر، ووقفت أمام الأطفال باسمة وقالت:

 

أحب أعرفكم بنفسي، أنا مس ناني مدرسة الموسيقى.. في أغنية صو نايس هنغنيها مع بعض، اوكيه

 

أوكيه

 

بدأت تغني والمديرة ترقب في صمت:

 

مصر هي أمي

 

نيلها هو دمي

 

شمسها في سماري

 

شكلها في ملامحي

 

حتى لوني قمحي، لون خيرك يا مصر

 

ما تلاقيش مثالهاااا

 

ست كل عصرررر

 

ضلة جنب نيلهااا

 

تسوى ألف قصرررر

 

صاحت بها المديرة:

 

استوووب

 

جبذت نعمة من ذراعها إلى خارج الحجرة الدراسية وقالت باحتداد:

 

ايه الأغنية المتدنية اللي غنتيها دي يا بني أدمة!! ايه أمي وست وقمحي، قمحك ايه وطينك ايه! انتِ بتغني في غيط!!

 

يا فندم دي أغنية وطنية مشهورة

 

مشهورة عندكو في الحارة، هنا الألفاظ دي مش موجودة، استبدلي الألفاظ دي بألفاظ لائقة بمستوى المكان اللي انتِ فيه. دول أطفال أهاليهم بتدفع بالدولار، مش زي عيال حارتكو

 

حاضر يا فندم، حاضر، هاستبدل الألفاظ عشان ما أذيش ودانهم الكيوت

 

ايوة كدة، يلا ادخلي قدامي وريني، إياك تقولي أمي دي تاني

 

عادت نعمة تقف أمام الأطفال وتقول:

 

يلا غنوا معايا السونج الكيوت دي

 

مصر هي ماااامي

 

نيلها هو بااااابي

 

ما تلاقيش مثالهااا

 

ليدي كل عصر

مصر بيلا  دوناااااا

 

بيلا  دوناااا مصرررر 

 

انتشى الأطفال وانتشت المديرة وأشارت لها أن تكرر باسمة، فاستجابت نعمة باسمة:

 

ما تلاقيش مثالهاااا

 

ليدي كل عصررر

 

مصر بيلا  دوناااااا

 

بيلا   دوناااا مصررر

 

مصر مصرررر

 

صفقت المديرة منتشية وأثنت عليها:

 

برافو برافو، هايلة يا مس ناني. حتى الكيدز عجبتهم قوي السونج، مش كدة يا كيدز؟

 

أجابوا في صوت واحد:

 

يس اوف كورس

 

وطالبوا نعمة بالإعادة:

 

اجين بليز مس ناني

 

اوكيه يا كيدز ههه

 

قالت لها المديرة، خلصي درس الموسيقى وحصليني عشان نمضي العقد

 

ههه اوكيه مس كريمان

 

غادرت المديرة حجرة الدراسة وبقت نعمة تغني للأطفال ويرددون خلفها في بهجة

 

فور جلوس المديرة على مكتبها، أخبروها أن أحد أولياء الأمور يود مقابلتها، فأذنت له: دخل رجل من طراز رفيع إلى المكتب تنتابه ثورة عارمة: قال بلا تحية

 

أنا جاي أقدم شكوى في مدرس الإيطالي سنيور عمر عز الدين

 

ليه يا فندم، ايه اللي حصل بس، اتفضل استريح وقولي إيه الموضوع

 

زفر الرجل وجلس يقول:

 

مش معقول يا مس كريمان اني أجيب إبني في المدرسة دي وأدفعله المصاريف الدولارية دي كلها عشان اللي اسمه عمر يخرب عقله ويغتاله فكرياً

 

أطرقت المديرة تغمغم غيظاً من عمر:

 

آآآخ يا عمر، نص مشاكل المدرسة بسببك

 

عادت لحديثها باسمة:

 

طيب ممكن أعرف إيه الشكوى بالتحديد

 

الشخص المذكور بيتكلم مع الولاد في الدين وبيقولهم صلوا

 

اتسعت حدقتاها وقالت:

 

يا خبر اسود!! هي حصلت!!

 

يعني حضرتك ما عندكيش علم إنه قالهم لازم يحفظوا القرآن؟

 

كمان!! لالا ده كدة اتجنن رسمي. أنا هستدعيه دلوقتي حالاً وهتخذ ضده أشد الإجراءات الإدارية، هو عايز يبوظلي سمعة المدرسة! عن إذنك يا فندم، خمس دقايق وراجعة

 

أخذت هاتفها وخرجت من المكتب على عجل، دقت على رقم الأستاذ عمر وهي تزفر وتتوعد

 

استنى عليا يا سي عمر

 

رد الأستاذ عمر على الهاتف وهو يتثاءب:

 

ايوة يا خالتو

 

خالتو في عينك يا أخي. إنت إيه! ناوي تخرب بيتي وتقفلي المدرسة!

 

ايه بس يا خالتو حصل ايه لده كله؟

 

اتفضل تعالالي على المدرسة حالاً

 

يا خالتو أنا ما عنديش حصص دلوقتي

 

مش عايزاك عشان حصص، جنابك متحول للتحقيق

 

انفجر ضاحكاً فاستبد بها الغيظ وقالت:

 

ممكن أفهم بتضحك على ايه يا بارد!!

 

ههه ولا حاجة، حاضر يا خالتو، هاخد شاور وافوق كدة واصلي الضحى واخد النيسكافيه بتاعي واجي

 

يا برودك يا أبرد من لوح التلج، مافيش شاور ولا صلاة ولا في وقت للنيسكافيه، في ولي أمر مقدم فيك شكوى ومنتظر عندي في المكتب، نص ساعة وتكون قدامي، فاهم؟

 

حاضر، هغسل وشي واجي

 

أغلقت الهاتف في وجهه وعادت لولي الأمر معتذرة بلطف:

 

أنا أسفة يا فندم إن كنت اتأخرت عليك، اتصلت بسنيور عمر وجاي حالاً

 

أوكيه، اديني مستني البني أدم المتخلف اللي عايز يرجعنا للعصر الجاهلي

 

أطلب لحضرتك قهوة؟

 

ايوة، أنا من كتر عصبيتي نزلت من غير ما اخد فنجان القهوة بتاعي

 

قهوة حضرتك ايه؟

 

زيادة

 

تحت أمر حضرتك

 

ضغطت على الزر وطلبت له القهوة، وعادت لحديثها معه.. مضت قرابة عشرين دقيقة، فدقت نعمة باب المديرة واستأذنت في الدخول

 

مس كريمان، ممكن أدخل

 

ردت باحتداد:

 

ايه في ايه؟

 

أنا خلصت حصة الموسيقى

 

انتظريني برا، مش شايفاني مشغولة!

 

شعرت نعمة بالامتهان، فهزت رأسها ووقفت خارجاً.. وقفت تنظر إلى الفناء من أعلى وترقب حركة المعلمين والمعلمات البالغي الأناقة والذوق في المظهر.. لاحظت أن أغلب المعلمات يرتدين الثياب القصيرة والضيقة وشعورهن تضج بالأصباغ، ووجوههن ساحات لألوان قوس قزح، فتذكرت معلمات الماضي اللواتي درسن لها العلوم المختلفة ومظاهرهن الوقورة، فترحمت على تلك الأيام وأصحابها وقالت وهي تهز رأسها:

 

الله يرحم أبلواتنا بتوع زمان، كنا نادر لو لقينا مدرسة عاملة في نفسها البدع كدة.. في اتنين محجباب أهو، ألف بركة

 

وإذ هي على حالتها إذ دخلت من البوابة سيارة فارهة، توقفت في الأسفل وترجل عنها شاب يبدو عليه مظاهر الثراء، يرتدي نظارة شمس من أشهر الماركات العالمية.. إنه الأستاذ عمر مدرس اللغة الإيطالية ... ظلت تنظر إلى السيارة الفارهة وتقول:

 

تبارك الله، جميلة العربية دي قوي، الله! متهيألي تمنها يسدد ديون الحارة. ربنا يبارك لصاحبها ويرزقنا من فضله

 

رمقها عمر من بعيد شاردة تنظر إلى الفناء، فعندما اقترب، خلع نظارته و سألها باحتداد:

 

انتِ مين وواقفة كدة ليه؟

 

وجدت في نفسها من طريقته، فردت بذات الاحتداد:

 

أنا مدرسة الموسيقى الجديدة، عند حضرتك مانع!!

 

نظر إلى حجابها وقال يبكتها:

 

طيب احترمي الحجاب اللي لابساه.. ايه! هو الدين عندك وعند أمثالك رخيص قوي كدة عشان تبيعيه مقابل شوية فلوس!!

 

شعرت بالإهانة وهمت بالرد، فأشاح بوجهه بتجاهل، ودخل إلى غرفة المديرة

 

حيا عمر المديرة والضيف:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

استشاط ولي الأمر غضباً حين سمع تحية الإسلام وانتفض عن المقعد يصيح كأنه شيطان:

 

سمعتِ بودنك يا حضرة المديرة الكائن ده بيقول ايه! البني أدم ده خطر على أولادنا. معنى إنه يقول السلام عل.... مش قادر أكمل.. معنى التحية دي إنه بيجر أولادنا لسكة الضياع. معنى انه يقولهم صلوا يبقى إرهابي، معنى إنه يقولهم احفظوا القرآن يبقى داعشي. هو أنا جايب ابني مدرسة ولا كُتاب!!! ابعدوا ابني عن الصلاة والقرآن، ما تضيعوش مجهودي معاه أنا وأمه

 

جلس عمر يقهقه، ووضع ساقاً فوق ساق وقال ساخراً:

 

هو مش البيه ملحد برضو؟

 

صاحت به المديرة غاضبة:

 

سنيور عمر، وبعدين! احترم ولي الأمر

 

أجابه الرجل غاضباً:

 

مالاكش دعوة بعقيدتي يا بني أدم انت. إحنا جايبين أولادنا هنا عشان يتعلموا علم مجرد عن الأديان. ايه دخل الأديان في العلم!! أوروبا ما نهضتش وتخلصت من عصور الظلام إلا لما ثارت على الكنيسة. وكان من أهم شعارات الثورة الفرنسية( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)

 

ابتسم عمر وقال بهدوء:

 

تعرف جنابك ايه مشكلة العلمانيين العرب؟ إنهم حافظين وبيرددوا زي البغبغانات ومش فاهمين أي حاجة. وبعيدين كل البعد عن الثقافة والتاريخ

 

احتج الرجل غاضباً:

 

أنا ما اسمحلكش

 

لا اسمحلي أقولك إن العلمانية ظهرت في الأندلس لما المسيحيين لاحظوا إن المسلمين مافيش بينهم وبين ربهم وساطة، على عكس المسيحيين اللي كانوا القساوسة يتوسطوا بينهم وبين ربهم بمقابل مادي، لدرجة إنهم كانوا بيبيعولهم  صكوك الغفران، تخيل!! ههه المسيحيين طالبوا بالمساواة وإن ما يكونش بينهم وبين ربهم وساطة زي المسلمين. وطالبوا بالتخلص من القساوسة لأنهم بيحاربوا العلم وبيتهموا العلماء بالهرطقة وبيقيموا محاكم التفتيش هما والملوك الخاضعين لسطوتهم.. عشان كدة الثورة الفرنسية كان شعارها( اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)  .لكن الإسلام دين يدعو إلى العلم والإرتقاء ويقدر العلماء.. القرآن يا عزيزي أثبت من أكثر من 1400 سنة إن الأرض كروية، لكن لما جالليو قالهم إن الأرض كروية، الكنيسة هاجمته وتمت محاكمته بتهمة الهرطقة. اقرأ عن الإسلام وتاريخه ومنهجه قبل ما تهاجمه وتقلد أوروبا في مهاجمتها للكنيسة تقليد أعمى ومن غير ما يكون لك أسباب منطقية زي الأسباب اللي أدت للثورة الفرنسية

 

استبد الغيظ بالرجل وقال:

 

أنا مش جاي أخد محاضرة في مقارنة الأديان، أنا جاي أحذرك إنك لو حاولت تأثر على عقل ابني أنا هسحب ورقه من المدرسة وهسترد المصاريف كاملة

 

اتسعت حدقتا المديرة وحاولت تهدئة الرجل:

 

اهدى بس يا فندم. الموضوع هيتحل إن شاء الله، أؤكدلك إن سنيور عمر مش هيتدخل تاني في تربية الأولاد ولا هيجيب سيرة الصلاة ولا القرآن

 

استدارت إلى عمر وقالت وهي تصر على أسنانها؟

 

مش كدة يا سنيور عمر؟

 

سدد نظرة إليها، ثم نظر إلى الرجل وسأله:

 

اسم ابن حضرتك بالكامل ايه؟

 

فادي يسري عزمي

 

 ضغط  عمرعلى أحد الأزرار على مكتبها وهاتف إحدى موظفات المدرسة  قائلاً:

 

أستاذة تيسير، هاتيلي ملف الطالب فادي يسري عزمي عشان والده جاي يسحب أوراقه من المدرسة

 

ضغط زر آخر متصل بموظف الخازينة وسط ذهولهما وقال:

 

أستاذ محمد، هاتلي قيمة المصاريف كاملة المدفوعة بالدولار من الطالب فادي يسري عزمي عشان ده آخر يوم له هنا، وخلي أي مشرفة تستدعي الولد وتسلمه لوالده

 

اتسعت حدقتا الرجل وصاحت المديرة:

 

انت اتجننت يا عمر!! ايه القرار الغبي ده!! القرار مش هيتنفذ

 

ابتسم وقال ببرود:

 

هيتنفذ

 

سبه الرجل بغيظ:

 

انت إنسان سمج

 

رد وبسمته لم تفارقه:

 

أشكرك يا فندم

 

جاءت الموظفة تحمل الملف

 

الملف يا سنيور عمر

 

شكراً أستاذة تيسير

 

غادرت المكتب، فدخل موظف الخازينة بالمبلغ المطلوب

 

المبلغ اللي حضرتك طلبته يا سنيور عمر

 

شكراً يا أستاذ محمد

 

انصرف الموظف، فأخذ الأستاذ عمر يرتب الملف والمبلغ، بينما المديرة وولي الأمر يتبادلان نظرات دهشة، وقف الأستاذ عمر وأعطى الملف والمبلغ للرجل وقال بابتسامة مستفزة:

 

اتفضل الملف والفلوس اللي دفعتها، أنا اللي مش عايز ابنك عندي في المدرسة

 

نتش الرجل الملف والحقيبة التي تحوي المبلغ وتوعد عمر:

 

أنا هدفعك تمن اللي عملته ده غالي قوي، أنا هعرف الناس إن المدرسة دي مدرسة فاشلة بيقودها إرهابي داعشي

 

اتسعت ابتسامة عمر وقال باستفزاز أكبر:

 

شرفتنا يا فندم

 

حدجه الرجل بنظرة مستعرة وغادر المكتب على أقدام غاضبة هوجاء

 

صرخت المديرة بعمر:

 

ممكن أعرف ايه اللي انت هببته ده!! انت ازاي تاخد قرار أهوج بالشكل ده وتلغي وجودي!! إنت عارف احنا خسرنا فلوس قد ايه! عارف سمعة المدرسة هتتضر ازاي!!

 

أنا من حقي أخد القرار اللي شايفه مناسب، ووجود ولد زي ده لأب بالعقلية دي ما اقبلوش في مدرستي

 

مدرستك منين! دي مدرسة ابويا

 

مش ابوكِ لوحدك، احب افكرك إنه أبو أمي، وجدي في نفس الوقت، وأنا هنا بدير بالنيابة عن أمي

 

يا أخي فلقتني انت وامك، مليون مرة قلتلها يا ميريهان خدي نصيبك وبيعيلي المدرسة وهي تقولي لا، بابا الله يرحمه موصيني وموصي عمر على المدرسة

تذكر جده فقال بأسى:

 

الله يرحمك يا جدي.. مش ناسي لما وصاني على المدرسة وقالي يا عمر، لازم تحافظ على الهوية الإسلامية للمدرسة وما تسمحش لخالتك كريمان تقلبها كرخانة

 

كرخانة! بابي أنا يقول كرخانة! دي أكيد كلمة إنت مألفها، بابي عمره ما كان بيقول الألفاظ دي.. ثم يعني ايه كرخانة أصلا؟ً

 

ههه كرخانة دي يا خالتو كلمة أصلها تركي ومعناها المقصود بيت البغاء

 

اقترب من وجهها وأردف:

 

بيت الدعارة يعني يا خالتي كريمان

 

اخرس يا ولد.. انت طالع زي بابا في كل حاجة. كان دايماً يسمي التحضر والتقدم إفساد

 

مش هناقشك في مفاهيم ولا مسميات.. أنا هنا ليا سلطة زي ما حضرتك لكِ سلطة.. انتِ بتستخدمي سلطتك في إنك عايزة تحرري الطلبة من الدين، وأنا هنا عشان أحافظ على الدين، وعشان كدة أنا متأكد إن صراعنا مش هينتهي.. وأحب أعرفك إني تعاقدت مع أربع محفظين للقرآن وهيجوا من بكرة إن شاء الله يحفظوا الولاد ويعلموهم دينهم

 

ضربت بيدها على المكتب بغليلها وقالت:

 

على جثتي إن ده يحصل

 

ههه عن إذنك

 

غادر المكتب فزفرت وأخذت تتوعد وهي تبحث عن رقم على هاتفها:

 

طيب يا ابن مريهان انت وامك، طيب. رقمها فين دي كمان!

 

هاتفت أختها والتي هي والدة عمر، ردت مبتهجة:

 

كريمان حبيبتي، إيه الصباح الجميل ده!

 

جميل ازاي طول ما انا بصطبح بوش ابنك! الأستاذ النهاردة اتسبب في خسارة كبيرة للمدرسة، ده غير سمعة المدرسة اللي هتبقى في الأرض بسببك وسببه يا ست مريهان

 

ههه ايه اللي حصل طيب فهيمني؟

 

لما يجي ابقي اسأليه. إبنك فاكر انه صح والناس كلها غلط، فضل يتعامل مع مراته بنفس الإسلوب لحد ما اتطلقت منه وحرمته من ابنه عشان ما يطلعوش معقد زيه، وأنا بحييها على القرار الهايل ده

 

تنهدت والدته وقالت بضيق:

 

طبعاً لازم تحييها، ما هي بنت أعز صديقاتك وانتِ اللي رشحتيها لعمر، ولما قالك دي مش محجبة ولا تعرف حاجة عن الدين ، قولتيله اتجوزها ولبسها الحجاب، البنت مطيعة وهايلة يا عمر.. وادي النتيجة.. عمر صحيح لبسها الحجاب لكن لبسته عن غير اقتناع، وفضلت على حياتها القديمة خروج وفسح ولما منعها انها تسافر مع صاحباتها الساحل، طلبت الطلاق واخدت الولد.. البنت دي كانت كارثة حقيقية وإبني بيدفع التمن من حرمانه من ابنه واللي بيتربى على طريقة الهانم اللي قلعت الحجاب ورجعت للقصير والضيق أول ما اتطلقت.. أنا بتألم لألم عمر ابني كل ما اشوف لهفته على طارق ابنه ولوعته على فراقه

 

تستاهلوا، عشان انتو ما ينفعش معاكو غير كدة.. كان عندي أمل إن بسنت تغير ابنك واسلوبه في الحياة ودور الواعظ الكئيب اللي عايش فيه.. لكن للأسف، إبنك مش هيتغير،  وياريت تتناقشوا في قرار بيعك للمدرسة، يا ستي خدي فلوسك وابعدي عني انتِ وابنك بقى، خنقتوني جاتكو القرف

 

اغلقت الهاتف فقهقهت والدة عمر وقالت:

 

والله كريمان أختي الصغيرة دي مشكلة. متخيلة إني ممكن أفرط في وصية بابا الله يرحمه واسيبلها المدرسة تدمرها.. الله يهديكِ يا كريمان

وإذ المديرة على حال الزفير والتأفف، جاءتها مكالمة من مدرسة الموسيقى الإسبانية والتي أعلمتها بموعد المجئ إلى مصر قريباً فانتشت، وأرسلت في طلب نعمة التي دخلت مستبشرة تقول:

 

ايوة يا مس كريمان، حضرتك طلبتيني؟

 

ايوة، طلبتك عشان اقولك إن مدام رافايلا خوان بابلو خلاص جاية بعد أربع أيام، ميرسي خالص مستغنين عن خدماتك.. اتفضلي خدي الملف بتاعك اهو

 

ابتئست نعمة وطفرت عبراتها وقالت راجية:

 

طيب مافيش أي وظيفة تانية عند حضرتك؟ أنا والله ممكن اعمل أي حاجة، طب شغليني حتى في كانتين المدرسة، أبيع سندوتشات للتلاميذ

 

قلت مافيش وظايف، ما تعطلنيش بقى

 

أخذت نعمة الملف الخاص بها والملقى على مكتب المديرة بيد مرتعشة، اتجهت صوب الباب وهي تجر أذيال الخيبة وعيناها تذرفان الدمع، ما أن خرجت حتى رأتها الفراشة فهالها ما رأت، وهرعت إليها:

 

ايه مالك، بتعيطي ليه يا مس نعمة؟

 

انفجرت في البكاء وقالت بصوت متهدج:

 

المديرة استغنت عن خدماتي، مدرسة الموسيقى الأجنبية جاية

 

لا حول ولا قوة إلا بالله! والله يا بنتي مش عارفة أقولك ايه!! زعلتيني قوي والله

 

وإذ هم على حالهما، رآهما الأستاذ عمر أثناء مروره، لمح تلك الدموع المنحدرة على خدي نعمة، فنادى الفراشة:

 

أمينة

 

افندم يا سنيور عمر

 

مالها دي، بتعيط ليه؟

 

سمعته نعمة فأسرعت صوبه وقالت باحتداد ودموعها تنهمر:

 

أقولك أنا مالي وبعيط ليه، عشان أنا قبلت الوظيفة دي رغم إني مش موافقة عليها عشان خاطر أجيب أكل لاخواتي اليتامى، عشان أدفع مصاريف مدارسهم، عشان أدفع إيجار الشقة اللي مش بنقدر نسده كل شهر، عشان ادفع الديون المتراكمة علينا للجيران، عشان أدفع فواتير المية والكهربا المتأخرة، عشان أجيب لبس لاخواتي بدل هدومهم القديمة.. شايف حضرتك الفستان اللي أنا لابساه ده! سالفاه من واحدة صاحبتي عشان يكون مظهري كويس واتقبل في الوظيفة عشان بقالي سنين من ساعة ما اتخرجت مش لاقية وظيفة.. لكن وظيفة ايه بقى!.. الوظيفة طارت .. يا أستاذ أنا أحلامي بسيطة وعمرها ما كانت فوق مستوايا، عمري ما حلمت بعربية زي اللي انت راكبها ولا لبس غالي زي اللي انت لابسه.. أنا كل اللي عايزاها تمن الأكل والعيشة الكريمة ليا ولماما واخواتي الصغيرين.. جيت العالم بتاعكو الغريب عليا عشان ألاقي عندكو وظيفة أعيش منها، من غير ما ابص للنعيم اللي انتو عايشين فيه.. لكن انتو طردتوني، انتو مش عايزينا معاكو عشان مش قد المقام وما ينفعش نكون معاكو.. حياتكو غير حياتنا، شكلكو غير شكلنا، احساسكو غير احساسنا.. لا انتو شايفينا ولا عايزين تشوفونا .. كتر خيركو.. كتر خيركو

 

انخرطت في بكاء مرير، استدارت وهمت بالانصراف، فرق لها قلب عمر وناداها:

 

طيب استني اسمعيني

 

التفتت تقول بصوت هدجه البكاء

 

أفندم

 

أخرج منديل معطر من علبة في جيبه، ومده إليها وقال باسماً:

 

طيب ممكن تمسحي دموعك الأول عشان نتفاهم

 

أمسكت بالمنديل فوجدته مبللاً بالعطور التي عبرت أنفها فقالت بنشيج:

 

حتى المناديل بتاعتكو غير بتاعتنا

 

انفجر عمر ضاحكاً وقال:

 

طيب امسحي دموعك بقى وقوليلي انتِ خريجة ايه واسمك وبياناتك؟

 

أنا خريجة أداب فلسفة، واسمي نعمة رزق، وساكنة في حارة الموعودين.. تسمع عنها؟

 

هه أكيد. ولو إني عمري ما زرتها .. طيب اسمعي، أنا هديكِ رقم تليفوني، وكلميني زي النهاردة الأسبوع الجاي  ، وأنا أوعدك إني ألاقيلك وظيفة كويسة إن شاء الله

 

برق الأمل في قلبها، فسألت متهللة وآثار البكاء في مقلتيها:

 

بجد يا أستاذ؟

 

ايوة إن شاء الله، طلعي موبايلك واكتبي الرقم

 

فتحت حقيبتها، فنظرت إلى هاتفها القديم المهشم الذي يخلو من البرمجات الحديثة ،وأمسكت به، فشعرت بالخزي من منظره، فتركته في أسفل الحقيبة كما كان وقالت بانكسار:

 

معلش، أصل بصراحة موبايلي قديم ومكسر ومكسوفة أطلعه من الشنطة

 

تبسم ومد يده أن أعطني إياه:

 

فأخرجته وأعطته إياه، ونظرت أرضاً، فسجل رقمه على الهاتف وقال:

 

هنتظر منك تليفون زي النهاردة الأسبوع الجاي  إن شاء الله

 

أخرج حافظة نقوده، واستخرج رزمة من الأوراق المالية، ومد يده إليها قائلاً:

 

اتفضلي يا أنسة نعمة، دول خمسة تلاف جنيه

 

شهقت نعمة وقالت:

 

ايه! خمس تلاف جنيه! .. لمين دول؟

 

ليكِ

 

ردت باعتزاز:

 

أنا مش بقبل صدقة ولا إحسان

 

ومين قال إن دي صدقة أو حتى إحسان!!

 

أومال ايه؟

 

تقدري تعتبريهم تعويض عن السخافة اللي حصلت بسببنا النهاردة.. اعتذار عن تضيع وقتك.. وكمان انتِ اشتغلتِ النهاردة، اعتبريه تمن الحصة اللي درستيها

 

فغرت فاها ذاهلة لوهلة ثم قالت:

 

حصة بخمس تلاف جنيه!!

 

من فضلك اقبليهم

 

أخذت المبلغ بفرح ودسته في الحقيبة وهي تقول:

 

الحمدلله يا رب، رزق ماما واخواتي. ياااه ده المبلغ ده هيحللنا مشاكل كتير، كتير قوي

 

سمعها باندهاش لحالها.. كيف لهذا المبلغ الصغير أن يسعدها لهذا الحد!!

 

 وقالت وهي تهم بالانصراف

 

هتصل بحضرتك زي النهاردة الأسبوع الجاي إن شاء الله يا أستاذ عمر، ويارب تلاقيلي وظيفة، متشكرة قوي، السلام عليكم

 

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

رمقها عمر وهي تنادي الفراشة لتعطيها بعض المال مما حصلت عليه، فأذهله ما يرى .. فهي معطاءة على فقرها ولم تستأثر بالمال لنفسها.. مضت نعمة لحال سبيلها، ومضى هو يفكر في حالها المرثي له وعطاءها المذهل وتفانيها في خدمة من حولها

 

********************************************

 

 

في الموعد المحدد للزيارة، توجهت والدة المهندس طارق على مضض إلى بيت العروس إبنة بائعة الخضار، وقد حملت علبة من الحلوى أتى بها ولدها لهذه المناسبة، قرعت جرس الباب بتأفف والعبوس على وجهها يكال بالمكيال، فتحت والدة العروس بابتسامة صافية:

 

يا أهلاً وسهلاً، اتفضلي يا ام طارق

تنهدت ولوت شفتها، ودلفت تقول:

 

يزيد فضلك يا ام نهى.. علبة الشيكولاتة دي باعتهالكو طارق

 

هه متشكرين، الباشمهندس كله ذوق، اتفضلي في الصالون، لحظة ورجعالك، عن إذنك

 

إذنك معاكِ يا حبيبتي

 

دلفت إلى الصالون وأخذت تنظر بازدراء وشفة ملتوية إلى الجدران والمقاعد المتواضعة، تنهدت بامتعاض وجلست على الأريكة المقابلة للباب، فدخلت إحدى شقيقات أم نهى متهللة ترحب بها:

 

يا أهلاً، يا أهلاً يا ام طارق، يا ألف خطوة عزيزة يا حبيبتي

 

لوت شفتها وردت بفتور:

 

يعز مقدارك

 

هه معلش سايبينك لوحدك، أصل ابلة عزيزة اختنا الكبيرة بتعمل حلويات في المطبخ وكنا بنساعدها، أنا عملت صينية بسبوسة ما تقوليش لعدوك عليها ههه وأمال اختي عملت صينية جلاش بالمكسرات هتتهبلي عليها، وابلة عزيزة بتعمل كيك جوا هي وام نهى، اصل احنا بقى أساتذة حلويات ههه رباية امي الله يرحمها

 

مصمصت والدة المهندس طارق شفتها بامتعاض، تنهدت وأشاحت بوجهها دونما اكتراث، امتعضت شقيقة أم نهى من تلك التعالي المترجم إلى نظرات ازدراء، فرفعت حاجباً ولوت شفتها وانصرفت، فدلفت أخرى تحمل صينية عليها كأس عصير بارد، ورحبت بها:

 

يا أهلاً يا ام طارق، ازيك يا حبيبتي

 

يا مرحب

 

ممم جبتلك كوباية عصير تطري على قلبك، شكلك حرانة، أشغلك المروحة:

 

وهي المراوح تعمل ايه في الجو المولع ده، أنا يا حبيبتي في شقتي طول النهار مشغلة التكييف، كان أصول تركبوا تكييف بدل ما تعذبوا الناس معاكو

 

لوت شقيقة أم نهى شفتها وقالت:

 

معلش يا حبيبتي، استحملينا، هشغلك المروحة يمكن تبرد الهبو اللي طالع من لسانك

 

أدارت المروحة وخرجت متأففة، فدخلت الشقيقة الكبرى ترحب بلطف:

يا مرحب يا ام العريس، ازيك يا لطيفة

 

أهلاً يا عزيزة

 

جلست قبالتها تقول بود:

 

ازيك وازي أوقاتك

 

ازي أوقاتي!! ايه الكلام اللي انقرض من أيام ثورة عرابي ده!!

 

هه معلش يا حبيبتي، أصلي ست دقة قديمة، ماليش في الكلام اللي ع الموضة

 

ولا ليكِ في أي حاجة يا حبيبتي

 

طالعت أم طارق عباءة الشقيقة الكبرى لأم نهى من أعلى إلى أسفل وقالت بقرف:

 

إنتِ الجلابية دي ورثاها من امك؟

 

ردت المرأة ساخرة:

 

لا ورثاها من ستي ام ابويا. كل واحد يختي بيلبس التوب اللي يليق عليه، يكفينا شر النفخة الكدابة

 

حدجتها والدة طارق بنظرة ازدراء وأشاحت بوجهها، فدخلت أم نهى باسمة، تتبعها شقيقتاها اللتان يكبرنها يحملن أطباق الحلوى بملامح متجهمة، وضعنها أمام والدة العريس، وجلسن، وأعادت أم نهى الترحيب بوالدة العريس:

 

يا ألف أهلاً وسهلاً يا ام طارق، نهى بتلبس وجاية ورايا على طول

 

براحتها

 

أشاحت بوجهها فنظرت الشقيقات إلى بعضهن بتأفف من صنيعها، غير أن أم نهى احتفظت بالابتسام لضيفتها المشيحة بوجهها، فدخلت نهى في ثوب أنيق، وشعر ذا تصفيفة جميلة،  وألقت التحية على والدة العريس

 

السلام عليكم، ازيك يا طنط

 

أخدت تطالع الفتاة من أعلى لأسفل، ومن يمينها ليسارها، فتعرق وجه الفتاة خجلاً، فردت والدة العريس السلام بنبرة فاترة:

 

وعليكم السلام، أهلاً يا حبيبتي

قالت أم نهى لابنتها

 

اقعدي يا نهى

 

جلست الفتاة في صمت، وقالت ام نهى للضيفة بلطف:

 

دوقي الحلويات يا ام طارق واشربي العصير

 

نظرت باشمئزاز إلى أطباق الحلوى وكأس العصير وقالت:

 

لا، أنا يا حبيبتي ماليش في الحلويات البيتي، تقيلة على معدتي، وبقرف من عصير البيوت

 

زفرت أمال شقيقة أم نهى وقالت بضيق:

 

استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، مالها يختي الحلويات البيتي! دي بسمنة بلدي معتبرة ما بياكلوهاش إلا الأكابر، والفاكهة بتاعة العصير مغسولة يجي خمسين مرة، طب دا حتى احنا موسوسين من النضافة

 

قالت ام نهى لشقيقتها:

 

بس يا أمال، أم طارق ما تقصدش. هي بس لسانها خانها

 

زفرت والدة طارق وقالت:

 

لا وانتِ الصادقة يا حبيبتي، أنا الزمان هو اللي خانيي وزقني في بركة وحل من غير ما يسمي عليا

 

اشرأبت أم نهى برقبتها وسألت بضيق:

 

تقصدي ايه يا ام طارق؟؟

 

بصراحة كدة يا حبيبتي، أنا جاية هنا بالغصب، الباشمهندس طارق ابني عايز يتجوز بنتك، وانا مش موافقة، عشان مش أخر ما اربي وأكبر واعلم وابني ياخد أعلى الشهادات، أناسب ام نهى الخضارية

 

انتفض الجميع عن المقاعد في غضب عارم، وصاحت ام نهى غاضبة:

 

صحيح إن طلع العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب، إنتِ ما يتردش عليكِ لإنك ما تستاهليش الرد، اطلعي برا وقولي لابنك ما تقدرش على مهر بنت الحاج خضر

 

شمرت شقيقات أم نهى عن سواعدهن وقالت الكبرى:

 

وربنا ما هتخرج إلا ما نعلمها الأدب الأول، طالما ما اتعلمتوش في بيت ابوها، ورايا يا أمال انتِ وماجدة عشان نعرفها مقامها

 

هرعن صوبها فصرخت:

 

انقضت النسوة عليها ضرباً باليمين وباليسار والأسنان، فعلا صراخها، مع محاولات مضنية من أم نهى  وابنتها لتخليصها من بين أنيباهن بلا جدوى

 

الحقوني يا ناس، حد يغتني يا خلق، الحقوني

 

بس يا خالتي سيبيها، يا جماعة سيبوها

خلاص يا ماجدة، كفاية يا أمال، سيبيها يا أبلة عزيزة

 

والله ما هنسيبها الولية ام لسان متبري منها دي، سيبوني عليها

 

الحقوني يا ناس، هيموتوني، حد يحوش الغجر دول. منك لله يا طارق

******************************************

 

كان المهندس طارق يذرع الردهة ذهاباً وإياباً ويفرك يديه من فرط التوتر، حتى قالت له شقيقته سلمى التي ترقبه جالسة:

 

ما تقعد يا طارق، خيلتني حرام عليك

 

ماما اتأخرت قوي عند أهل نهى. مش كدة؟

 

ضحكت سلمى وقالت ساخرة:

 

تلاقيها بتمتحن العروسة بقى على طريقة الأفلام القديمة، وتشوف شعرها حقيقي ولا لابسة باروكة، سنانها حقيقية ولا مركبة طقم سنان، حاجات كدة يعني

 

اوف! مش فايق لهزارك... يا ترى عملتِ ايه يا أمي!

 

تنهدت سلمى وقالت:

 

يا ابني اهدى، ما هي لازم تقعد مع العروسة وأهلها عشان تتعرف عليهم

 

تتعرف على مين! احنا جيران من زمان

 

ايوة بس النسب حاجة تانية يا طارق

 

قطع حديثهما طرق عنيف على الباب، مصحوباً بصوت والدتهما تنادي باكية:

 

افتح يا سي طارق، افتح يا باشمهندس

 

ايه ده! ده صوت امي

 

يا خبر يا طارق، افتح بسرعة نشوف مالها

 

هرع إلى الباب وخلفه أخته، فتح فوجد والدته تبكي، وقد فقدت هندامها وعليها آثار الضرب، شهقت ابنتها واتسعت حدقتاها، وقبل أن تسألها عما ألم بها، سألها طارق:

 

ايه ده يا أمي! ايه اللي عمل فيكِ كدة؟

 

ازاحته واندفعت إلى الداخل تقول:

 

الغجر اللي عايز يناسبهم يا سي طارق ، اهئ اهئ الولية اللي اسمها ام نهى نزلت فيا ضرب هي والغيلان اخواتها

 

جلست تتأوه:

 

آآآه ياني آآآه يا عضمي اللي اتفشفش اهئ اهئئئ

 

ايه!!.. ايه اللي بتقوليه ده يا أمي! معقول ده حصل؟

 

اهئ اهئ لا بخرف يا سي طارق اهئ اهئ بتفتري عليهم، أنا اللي خبطت راسي في الحيطة وبهدلت هدومي عشان اتهمهم زور

 

طب ازاي بس يا أمي! وليه يعملوا كدة!

 

قولتلك دول عيلة غجر ما صدقتنيش اهئ اهئ قولتلك ده نسب يعر، ما سمعتش كلامي. اديني اتضربت بسببك يا سي طارق وأنا رايحالهم بنية صافية عشان اطلب بنتهم لحضرتك آآآه يا دراعي، آآآه يا دماغي، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا ام نهى انتِ والسفاحيين اخواتك

 

تنهد وربت على كتفها يقول:

 

معلش يا ماما، حقك عليا

 

ازاحت يده وصاحت به:

 

ابعد إيدك عني. كفاية اللي جرالي من تحت راسك اهئ اهئ ... سلمى

نعم يا ماما

 

اهئ اهئ شوفيلي حاجة اكلها يا بنتي لاحسن هقع من طولي من كتر الضرب اللي كلته اهئ اهئئئئ

 

حاضر يا ماما

 

استدارت سلمى إلى طارق وقالت باحتداد:

 

بس بصراحة بقى يا طارق، الناس الهمج دول لازم يتربوا، ولازم تجيب حق ماما

 

واجيب حقها ازاي بقى!

 

تاخد اصحابك وتروحوا تضربوهم زي ما ضربوا ماما

 

على فكرة أنا مهندس واصحابي مهندسين ودكاترة، مش بلطجي ومصاحب بلطجية

 

طالما هتناسب العيلة دي يبقى لازم تبقى زيهم

 

صرخت والدتها:

 

يناسب مين!! هما بعد اللي عملوه في امه هيخطيلهم عتبة!! والله يا طارق ساعتها لا تبقى ابني ولا اعرفك، واسيبلكو البيت واروح اقعد في دار مسنين، واللي يقولي ايه اللي جايبك هنا، هقولهم ابني اتجوز من عيلة واطية ورماني في الشارع، واخلي اللي جاي واللي رايح يدعي عليك اهئ اهئئئئ

 

كدة برضو يا ماما!

 

أوعدني إنك ما تجيبش سيرة البت دي تاني

 

..... حاضر يا ماما

 

يحضرلك الخير اهئ اهئئ..... فين الأكل يا سلمى

 

بسخنه والله يا ماما

 

*********************************************

في الصباح وقبل ذهابه إلى العمل، قرر المهندس طارق أن يمر إلى دكان أم نهى ليسألها عما حدث، ولكنه أبصر نهى تقف للبيع بدلاً عن والدتها، فاقترب من المحل ولفت انتباهها:

 

أنسة نهى

 

ردت بامتعاض:

 

افندم

 

قال بانفعال:

 

أنا دخلت البيت من بابه، وبعت أهلي يطلبوكِ من أهلك، أنا عايز أعرف أمي بتتضرب ليه؟

 

ردت بانفعال أشد:

 

وهي الست والدتك ما قالتلكش إنها جت تشتمتنا في بيتنا وتقولنا نسبكو ما يشرفناش، أخرتها نناسب بياعين الخضار!!

 

ايه! أمي قالت كدة؟

 

ماما وخالاتي لما سمعوا الكلام اتعصبوا، وخالاتي ما حسوش ينفسهم إلا وهما بيضربوها من غيظهم بسبب القنعرة الكدابة اللي كانت بتعاملهم بيها

 

ايوة يا أنسة نهى، بس ده مش أسلوب اعتراض. كان ممكن...

 

قاطعته باحتداد:

 

كان ممكن ايه! نقولها كتر خيرك إنك هتتنازلي وتناسبينا! دي ماما ضغطها عالي والصداع ماسكها من ساعة زيارة الست والدتك وما قدرتش تنزل الدكان النهاردة.. الحمدلله إن الأمور اتضحت من دلوقتي يا باشمهندس، عشان الجوازة دي كانت هتبقى جوازة فاشلة. وقول لمامتك إني فخورة إني نهى بنت ام نهى الخضارية، اللي ربتني لوحدها من كدها وتعبها وما مدتش إيدها لحد من أهل الحارة. واتفضل خد حزمتين الفجل دول عشان ماحدش يقول هو كان واقف معاها ليه. ويكون في علمك هنا محل خضار، يعني ما تجيش إلا اما تكون عايز بطاطس ولا بتنجان. والأحسن تشتري من حد تاني. بالسلامة

 

أولته ظهرها ترتب الخضر، فقال بود بالغ:

طب خدي تمن الفجل، وعلى فكرة مش هيكون آخر ما بينا، عشان أنا عمري ما هلاقي أحسن منك لو لفيت الدنيا بحالها، وفخور بوالدتك أكتر من فخرك بيها

 

كظمت ابتسامة، واستدارت.. أخذت النقود، ومضى في طريقه

 

******************************************

وصلت سيارة المعلمة جباير إلى الفندق الفاخر المنعقد به العُرس، تسبقها سيارة الحرس الخاص بها، ترجل السائق في خفة وفتح لها الباب، ثم هرع إلى الباب الآخر ليفتح لابنتها غادة. ترجلت المعلمة جباير عن السيارة وهي ترفل في عباءة حريرية بيضاء مرصعة بالجواهر، بالإضافة إلى تلك الجواهر التي تزدان بها مواضع الزينة منها. حتى تلك الإيشارب الأبيض الحريري الذي ينحسر عن بعض شعرها، لم تنس أن ترصعه بالجواهر، فبريق الماس كان من أعلاها إلى أدناها، فبدت كمغارة كنز متحرك.. حتى اختيارها للون الأبيض لم يأت عبثاً، ولكنها جاءت بنفس لون ثوب العرس لتنافس العروس وتفوقها إبهارا.. اتجهت رفقة ابنتها بصحبة الحرس إلى قاعة الحفل تختال بثوبها

 

******************************************

 

انتهت الحلقة

 

نلتقي الخميس القادم إن شاء الله  ونشوف ايه حصل في فرح المعلم عدوي وعروسته ميسون ونعرف أخبار باقي أهل حارة الموعودين

 

لا تنسوا ذكر الله والصلاة على الحبيب عليه الصلاة والسلام

 

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد