الحلقة التاسعة, الفصل الثاني, الجزء الثاني( الليل والدوادي)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وما توفيقي إلا بالله

 

عليه توكلت وإليه أنيب

 

***************************************

في الصباح أتى صقر يهرول عندما أرسل مصطفى في طلبه, وقف الشائب مضطرب الملامح أمام الشاب الجبلي الذي يضع قدماه في وجهه تحقيراً لشأنه, وحياه: مسا الخير يا مصطفى بيه

 

تجاهل تحيته, وقال بصوته الأجش: سويت ايه في الطريج المهجور؟

 

...ماحدش طلب مني اسوي فيه حاجة

 

انتفض عن أريكته وصاح في صقر: وانت مستنظر حد يجولك تسوي ايه في الشغل المطلوب منيك! ولا كانك كبرت وما جادرش ع الشغلانة!

 

وآنا جصرت في ايه بس يا مصطفى بيه! كل اللي عم تطلبه الست صفية بيتنفذ بالحرف

 

والناس اللي عم تدخل وتخرج من النجع وانت كيف خيال المجاتة تجول فيهم ايه!

 

....الله يسامحك عاد يا ولدي

 

انتفخت أوداجه وصاح في الرجل: اتمسكن كيف الحريم عاد وغطي راسك بطرحة. اسمع يا راجل انت, مش كد الشغلانة هملها, ولا فالح تاخد فلوس متلتلة وإنت نايم على ودانك والنجع عم يرتع فيه الداخل والخارج كانه مالوش كابير ..اجولك, روح نام جنب مرتك وسويلها الوكل وهمل الشغل لراجل يكون كديه

 

حدجه صقر بنظرة غل مستعرة, ود لو يصفع ذاك الشاب الوقح على وقاحته مع شائب مثله..ولكن آنى له ذلك..ابتلع غصة إهانته وقال بإذعان: أوامرك بخصوص الطريج المهجور يا مصطفى بيه

 

عاد إلى متكئه, أخذ نفساً عميقاً وهو ينظر إلى صقر, ثم قال: من الليلة تتحط عمدان نور بطول الطريج, وتتبني بوابة وتتشدد عليه الحراسة, وكماني البوابة الجديمة تتشدد عليها الحراسة. وإياك اسمع عن حد غريب دخل النجع من غير ما يكون عندي بيه علم

 

كل اللي أمرت بيه هيتنفذ من ديلواك..بالإذن يا مصطفى بيه

 

أشاح بيده بعنجهية, فخرج الرجل يتلظى غيظاً ويكيل السباب في سريرته( على آخر الزمن ياجي واد ما يسواش يأمر عليك يا صجر..آآآخ يا كلب الجبل)

 

 

*********************************************

 

في تلك الليلة وحين كان مصطفى يتجول بين الأزقة والحواري بصحبة رجاله, ليثير الذعر بين الأهالي, ليحكم قبضته الغليظة على القرية ..مر به حسن  وهو يجهله, فاستوقفته ملامح مألوفة..تجاوزه بخطوات وهو ينبش ذاكرته أين رأى هذه الملامح..طفت على سطح ذاكرته تلك الملامح القديمة لصديقه القديم, فأشرق وجهه وغمغم باسمه..مصطفى, ثم استدار ينادي بصوت عال: مصطفى

 

استدار مصطفى ليتبين المنادي, فأخذه ذات الشعور بألفة الملامح..أدرك من هو صاحب الملامح فاتسعت حدقتاه, ولكن التجهم لم يتخل عن قسماته الصارمة..اقترب منه حسن وقال: ايه يا مصطفى, نسيتني ولا ايه يا صاحبي!

 

.......انت حسن

 

انفرجت أسارير حسن واندفع يعانقه بحرارة الماضي..لكن مصطفى لم يفعل وشمخ برأسه..فعاد حسن عن عناقه مخزياً واجما وقال بنبرة مختنقة: كانك نسيت صاحبك الجديم والعهد اللي اتعاهدنا عليه زمان

 

حدجه مصطفى بنظرة ساخرة وأولاه ظهره , ومضى في طريقه, فظل حسن متسمراً, يرقبه مدهوشاً حتى غاب عن ناظريه

 

****************************************

على المقهى تجمع رجال القرية كالعادة.. الوجوه تعلوها الكآبة والنفوس ضائقة,الأعين شاردة, لا صوت يسمع إلا صوت رشفات الشاي الصاخبة وقرقرة النراجيل..ظلوا على هذا الحال حتى بدأهم أحد الرجال بالحديث عن تلك الوحش الآدمي الذي أنزله بدران من الجبل لتروعيهم: يعني احنا كنا جادرين على بدران ورجالته لما ينزل علينا غول من الجبل!

 

نفث آخر غليله في أوار النارجيلة وقال حانقاً: ديب مسعور, جلبه ما يعرفش الرحمة..عشية نضرته في السوج نازل ضرب بنبوته في بياع غلبان من غير شفجة, والراجل عم يزعج من الوجع, والناس معدية من جنبيه لا حد جادر يتكلم ولا يجول همل الراجل المسكين

 

وضع آخر كوب الشاي على المنضدة بضيق وقال: الناس خايفة وما حد جادر ينطُج..ماحدش مستغني عن عمره عاد

 

أنفجر آخر غيظاً: طب والعرض اللي عم يتنهش نسكتوا عنيه كيف! واد المحروج مصطفى ابو جارحي ورجالته خدوا بتين من دار جاري عشان ما جدرش يدفع الإتاوة..بجت المرة تزعج على بنتاها وتبكي بحرجة, والراجل يحب على يدهم ورجولهم عشان يهملوا البنيتا, لكن واد الحرام ما رضيش يهملهم, وساجهم كيف البهايم..آآآخ يا نجع ما فيه راجل

 

قهقه آخر وقال: ولما انت محروج ع العرض كديه, ما تكلمتش ليه وخليتك انت الراجل اللي فينا عاد!

 

رد الرجل بانكسار: كلنا حريم وماحيلتناش إلا اللمة ع الجهوة عشان نحكي ع اللي اتسوا فينا ونمصمصوا شفايفنا

 

عادوا للصمت مرة أخرى وطغى صوت رشف الشاي وقرقرة النراجيل

 

 

**********************************************

اتخذ محمود من دكان الحلاق مربضا. فقد عكف على مراقبة ورد عن كثب إن راحت أو غدت, إنه الحب الذي فرث قلبه ..حتى أن أمره نما إلى أسماع والدته عبر أحد أعينها في القرية. فقهقهت وقالت: خليه يتسلى ويعيشله يامين عاد قبل ما يتجوز

 

********************************************

كان في طريقه إلى قصره ليلاً عندما سمع مصطفى صوتاً يناديه, التفت فإذ بالمنادي حسن الذي عقد العزم على مواجهته بعدما علم من حقيقته ما أفزعه, زفر ممتعضاً, فهرع إليه حسن وقال بوجه طلق: كيفك يا مصطفى

 

موجفني عشان تسألني عن حالي!

 

...لاه يا مصطفى..عشان اسألك ايه اللي غير حالك

 

اسدل حاجبيه ورد باندهاش: حال ايه اللي عم تتحدت عنيه عاد!

 

حالك الجديم يا صاحبي..جلبك الطيب ..عهدنا اللي جطعناه جدام ربنا ليلة ما خرجنا من دار الشيخ سلطان اللي كان عم يحفظنا القرآن..نسيت عهدنا الجديم يا مصطفى إننا لا نظلم ولا نهدم ولا نجتل ولا نعمل اللي يغضب ربنا.!!.ايه اللي خلاك كديه يا مصطفى!..ايه اللي جوى جلبك على ظلم ناس النجع واستباحة دمهم وعرضهم ونهب مالهم!!

 

تطاير الشرر من عيني مصطفى وصاح بنبرة مستعرة: ناس مين اللي عم تتحدت عنيهم! دول كلاب, كلاب ويستاهلوا الحرج والجتل ونهش عرضهم جصاد جتلهم لبوي..هما اللي اتآمروا عليه يوم ما نزل من الجبل بسلامة نية عشان يردلهم مالهم  ويجول سامحوني..لكن ما رحموهوش ...جتلوه...واللي حرضهم عليه الشيخ سلطان بتاعك..عشان كديه حلفت براس بوي لنتجم منيهم راجل راجل ومرة مرة ..حلفت اكسي النجع بتوب الخوف والرعب  اللي لا يدوب ولا يتنجض لآخر يوم في عمرهم..دريت ليه عم اعمل فيهم كديه!!

 

يا مصطفى اسمعني, ناس النجع....

 

صاح مشيحاً بيده: وفر حديتك. ما عايزش اسمع

 

استدار وهم بالانصراف, فاعترضه حسن قائلاً بإصرار: لاه, لازم تسمع يا مصطفى. مين جالك إن بوك اتجتل! مين ملا جوفك بالسم كيف الدوادي!

 

استبد الغضب بمصطفى وقاطعه مغلظاً له القول: اسمع يا جدع انت, توب الجبن اللي انت رضيت بيه, عمره ما هيكون توبي ولا هيكسي جتتي

 

آنا مش جبان يا مصطفى

 

لاه جبان, جبان ونسيت تار بوك اللي اتجتل, وديلواك عم تدافع عن ناس النجع اللي جتلوه, وعايزني آنا التاني ابجى زييك

 

جولتلك آنا مش جبان يا مصطفى, آنا لو عارف صُح مين جتل بوي ما كنت أتردد لحظة إني اجتله.لكن ما اعرفوش. كيف أخد الناس بذنبه واستحل دمهم من غير جريرة! إنت ظالم يا مصطفى, ظالم وربنا ما يرضاش بالظلم..ربنا سبحانه وتعالي قال( ولا تزر وازرة وزر أخرى)

 

استشاط مصطفى غضباً, وأخذ بمجامع حسن وقال مهدداً: اسمع يا جدع انت, كرامة للعهد اللي جطعته وياك واحنا صغار ما هتعرضلكش بأذى . لكن إياك, إياك تعترض طريجي مرة تانية. وإلا وجتها هنسى العهد واستحل دمك, ويبجى اللوم عليك مش عليّ

 

رشقه حسن بنظرة ازدراء وأطاح بيديه بعيداً وقال بحسم: وآنا ما يلزمنيش عهد مع خسيس زيك, ومش هسكت عن الحق, واللي عندك اعمله يا مصطفى يا بو جارحي

 

مضى مسرعاً ونظرات مصطفى المتقدة تتبعه حتى غيبته منعطفات الطريق

 

**********************************************

 

تستر محمود بسواد الليل الحالك وعمد إلى المستوصف. إذ يعلم أنه خالٍ إلا من ورد, الذي علم من البعض أنها تبيت بمفردها..لا صوت في الخارج إلا صفير صراصير الغيط ونقيق الضفادع المصطفة على ضفاف الترعة. لا ضوء إلا تلك الخافت المنبعث من أحد أعمدة الإنارة..اقترب من الباب وهو يتلفت حوله, دق عدة دقات برفق, حتى استيقظت. قامت عن مرقدها وتوشحت وهرولت صوب الباب تسأل: مين

 

فتصنع صوت امرأة عجوز وأخذ يسعل ويقول بوهن: افتحي يا بتي, عيانة وما جدراش اجف

 

تعالي في الصبح يا خالة, الداكتور مش هنيه

 

عارفة يا بتي. معايا حجنة وجيتك تديهالي. افتحي يا بتي الله يرضى عنيكِ, عم اتململ من الوجع

 

فتحت من فورها فأفزعها مرآه, فهمت بالصراخ فكتم فاها بيده وأغلق الباب بقدمه, فاتسعت حدقتاها فزعاً, فقال مطمئنا: ما تخافيش يا ورد, صدجيني ما هأذكيش يا بت الناس, آنا جاي اتحدت معاكِ باعيد عن الخلق اللي ما مهمليناش في حالنا. هرفع يدي عن خشمك, بس يكون في معلومك, لو صرختي هتلطخي سمعتك في الطين, وألف من هيجول الغريبة عم تجابل عشيجها في نصاص الليالي..فهمتيني؟

 

أومأت برأسها والرعب يطل من عينيها, رفع يده عن فمها فصفعته وبصقت في وجهه مسبة إياه: كلب واد كلاب

 

ضحك بصوت خافت, ومسح عن وجهه آثار البصق وقال بلطف: كتر خيرك عاد يا ست البنيتا, اشتمي كمان, آنا جابل

 

إنت رايد مني ايه يا واه؟

 

رايدك ورايد اتجوزك

 

كداب

 

لاه, صادج

 

وايش عجب اخترتني آنا من دون البنيتا؟

 

واه! هو الواحد فينا له حكم على جلبه!

 

يا اخي جاك وجع جلبك الباعيد. وانت تعرفني غير من كام يوم فاتوا!

 

ودي فيها ايه! ما سمعتيش عن الحب من أول نظرة يا بت!

 

بجولك ايه يا جدع انت, آنا ماليش في الحديت الماصخ ديه, هملني لحالي وغور

 

يا بت ما تبجيش غشيمة. بجولك عايز اتجوزك. عارفة يعني ايه! يعني هتعيشي في عز وتتنعمي في الحرير, بدل عيشة الضنك اللي عايشاها  وهتموتي فيها ديّ...رايدك يا ورد

 

جولتلك كداب. آنا سمعت عن امك اللي اسميها صفية, والناس بيجولوا إن ديّ يوم ما تجوز ولدها مش هتجوزه غير لبت كابير من الأكابر

 

هاها ومين دول اللي جالولك عاد!

 

ناس كاتير

 

هاها واه! كانّك مشغولة بيا عاد كيف ما آنا مشغول بيكِ وعم تسألي عني

 

ما تعشمش روحك بحاجة ما حصلتش ولا هتُحصُل. الناس في النجع مالهاش سيرة غيرك وغير امك وخالك, وعم يجولوا إن المال اللي عنديكم ديه كلاته في الأصل مش بتاعكو ولا تملكوه, ديه مال راجل اسميه صالح وخيّته حياة, وانتو خدتوه غصب

 

استشاط محمود غضباً, وقبض على ذراعها بعنف وقال: سمعتِ من مين الحديت ديه؟

 

انقبض قلبها رعباً ونوت في سريرتها ألا تشي بالمرأة المسكينة وتتسبب في إيذائها..تمالكت نفسها وانتزعت ذراعها من قبضته وقالت بغلظة: بعّد يدك عني وإياك تتجرأ تمسكني كديه تاني. الناس اللي عم يتحدتوا عنيكو كاتير وما اعرفش حد منيهم, ولا كانك ناسي إني غريبة هنيه ما عارفاش الناس!

 

 

زفر بحنق وقال بحسم: ناس النجع جلوبهم أسود من الليل الغطيس. ما يحبوش الخير لبعض, ولا يحبوا يشوفوه عند غيرهم. كارهين أمي عشان ست النجع, وكارهين خالي عشان سيد النجع اللي حاميهم..جنس خسيس ناكرين للجميل..نسيوا إن خالي هو اللي حماهم من رجالة صالح اللي كانوا مخربين النجع, وكل يوم والتاني دم ونار. لولاه ما كان نجع ابو المنصور عايش بخير وسلام كيف ما انتٍ ناضرة كديه

 

صدقت كل ما أوقعه على مسامعها من أباطيل..فحقاً هي ترى الأمان على أرض النجع ولا تدرك أن أسفل الأرض بركان وخلف الجدر ويلات يكتمها أصحابها. فأنى للغريب أن يسمع أنات أهل الديار!

 

سألها محمود بلطف: مصدجاني يا ورد

 

مصدجاك في ديّ, لكن ما مصدجاش إنك رايد تتجوزني

 

ليه يا ورد! ما مصدجاش إني حبيتك؟

 

ما عايزاش اسمع حديت مزوج, آنا عايزة فعل لو صُح رايدني

 

خلاص يا ورد, وآنا هوريكِ إن فعلي ما يختلف عن جولي. في الصبح هفاتح امي في جوازنا

 

وإن ما وافجتش؟

 

لاه هتوافج.أصلك ما تعرفيش امي تحبني كيف, حتى تحبني أكتر من خوي الكابير, وتتمنالي الرضا

 

أما نشوف عاد

 

هتشوفي وتنضري يا ورد

 

لو امك وافجت, تطلبوني من الشيخ سلطان

 

واه! يعني ما لجيتيش غير الشيخ سلطان اللي امي تطيج العمى وما تطيحوش!

 

ليه طيب؟

 

أها, هي كارهاه وهو كارها من زمان الزمان..شوفي حد غير الراجل ديه

 

لاه. لو رايدني صُح تطلبوني من الشيخ سلطان. هو مُطرح بوي, وما هوكلش غيره في جوازتي

 

يا ورد طيب....

 

ما تكملش..افرض إن هو بوي صُح, كنت هتعمل ايه وجتها!!

 

تبسم وقال هائماً: كنت هطلبك منيه وسيف العشج على رجبتي

 

بدت ابتسامة على محياها وقالت: يبجى خلاص, فاتح امك واطلبوني من الشيخ سلطان

 

رد تغزلاً: أمر الجمال ينطاع ولو فيه مذلة

 

خرج متخفياً وأغلقت الباب خلفه هائمة ترتشف كؤوس النشوى

 

 

***********************************

 

 

بينما كانت صفية ترتشف شاي الظهيرة على أريكتها في البهو, إذ خرج عليها محمود من غرفته, تثاءب وجلس قبالتها وحياها: مسا الخير يا امّا

 

يسعد مساك يا محمود. يعني ما نمتش للعصر كيف عوايدك!

 

ليا حديت معاكِ جلج منامي

 

وضعت كوب الشاي على المنضدة واعتدلت في اهتمام: خير يا محمود

 

نويت اتجوز يا امّا

 

هاها صُح؟ يا نهار الهنا. وماله يا محمود, عروستك عندي ومستنظرة إشارة منيك..سبجتني عاد, كنت ناوية افاتحك اليامين دول في جوازك منيها

 

لاه يا امّا. وفري عروستك لحد تاني, آنا عروستي اختارتها لحالي, آنا اللي هعيش معاها مش حد تاني

 

ممم يعني على كديه في واحدة رابط راسك عليها

 

ايوة يا امّا

 

رفعت كوب الشاي إلى فيها وضيقت عينيها وارتشفت رشفة وسألته: ودي تبجى بت مين من كبارات النجع عاد؟

 

.....لا ه يا امّا..ديّ..دّي غريبة عن النجع

 

عبس وجهها وعبث الشك في دواخلها حول الفتاة الغريبة التي حلت بالقرية, وحان وقت اليقين فسألته: تجصد مين يا واد صفية؟

 

في بت طيبة ومليحة وكيف البدر ليلة تمامه يا امّا, وعم تٍشتِغل في المستوصف عاد

 

نشبت النيران في قلبها وحدجته بنظرة غضب وقالت محتدة: واسميها ورد, مش كديه؟

 

أطلت الدهشة من عينيه وسألها: وعرفتِ اسمها من وين يا امّا؟

 

اسمها وكل شيء عنيها من يوم ما خطت برجلها في النجع. أمك ما يخفاش عليها دبة النملة. وعرفت كماني انك مهمل حالك ومحتالك ولابد عند بركات الحلاج تبحلج فيها في روحتها وجيتها.بس اللي ما كنتش خابراه صح إنك جنيت يا واد صفية

 

جنيت ليه يا امّا! عشان رايد اتجوز اللي جلبي رايدها!!

 

اعقل يا محمود وما تهدش اللي بنيته عشانك وعشان خوك.. البت ديّ لو رايد تتسلى معاها يامين اتسلى على كيف كيفك. لكن لما تاجي تتجوز, يبجى تتجوز واحدة من مجامك العالي . مش بت واطية كيف دي تاخدك وتغوص في الطين

 

يا امّا ما هي لما تبجى مرتي هتعيش في سرايتي وهلبسها الحرير والدهب وهتبجى منينا

 

إنت عم تخربط تجول ايه! أنت ناسي إنت مين وواد مين يا واكل ناسك انت! إنت واد صفية ست ستات النجع, وخالك يبجى بدران بيه كابير النجع. إحسن اللي عم يجوله خشمك وإلا تخرس احسن , وإذا كان على الجواز هجوزك واحدة تليج بمجامك ومجامنا

 

لاه يا امّا, آنا ما رايدش غير ورد ومش هتجوز غير ورد. وما رايدش منيكِ مليم, المال عندي والأرض عندي, والسرايا عندي

 

انتفضت عن مقعدها وانقضت عليه تأخذ بمجامع جلبابه وأوقفته تصب عليه جام غضبها: مال ايه يا واه اللي عم تتحدت عنيه! المال مالي, والأرض اللي عطتهالك بإشارة مني تبور وما ينبت فيه الزرع تاني, والسرايا تبجى كوم رماد, وفي الآخر ما هتتجوزش غير إللي اختارتها امك, والبت ديّ تشيلها من راسك وإلا هحزنك على عمرها..سمعتني مليح يا واد شاذلي اللي عاش فقري ومات فقري!

 

أطاح بيديها عن ثيابه وزأر: عم تهدديني يا امّا!ياك فاكراني بت هخاف وهرجف!آنا راجل وصوتي من دماغي, واللي يلد عليّ اعمله واللي مايلدش ما هعملوش, ولو جمعتي الجن الاُزرج يحوشني

 

 

ولى مغاضباً وتركها لهياجها وثورتها, فصرخت غيظاً: طيب يا محمود, طيب, الله في سماه ما هيُحصُل غير اللي في دماغي, وهتلحس التراب لحس عشان ارضى عنيك يا واد شاذلي

 

*************************************

وأتت تباشير الصيف لتعانق عزيمة عمر على الذهاب إلى القرية, وحين اجتمع مع والديه على مائدة الإفطار, قال لوالده: على فكرة يا بويا, الجامعة عندنا عاملة رحلة لفرنسا لمدة التلات شهوربتوع الصيف للطلبة المتفوقين. وإنت عارف طبعاً إن ابنك من المتفوقين وكان لازم يرشحوني

 

امتزج الفخر بالدهشة على ملامح الوالد: واي واي واي! فرنسا مرة واحدة كديه!

 

هاها اومال ايه! ابنك قدها وقدود

 

وماله يا ولدي, روح شوف الدنيا واتفرج على ناسها

 

ردت والدته بامتعاض: واه! ياك هتهمله يسافر يا خليل! ايه يوديه البلاد الباعيدة ديّ ويبعد عن أهله وناسه!

 

فيها ايه يا حياة اما يسافر! ياك هو بت هتربطيه جنبيكِ!! ولدك راجل, خليه يسافر وينضر بعينه اللي عمره ما نضره

 

يا بوي على تحكيمة رأيك انت وولدك يا خليل! اللي يطلع براسكو لازمن تسووه ولو مين وجف جصادكم

 

ههه مليح إنك خابرة كديه يا حياة.ربنا عالم إني رايد المُصلحة لولدي

 

ممم طيب وهطمن عليك كيف يا ولدي؟

 

إن شاء الله أول ما اوصل هطمنك عليا يا ست الكل

 

آآآخ يا مرك يا حياة...أجول ايه!!...بشوجك يا ولدي عاد. بس اياك تطول وتوجع جلب امك

 

لا ما تخافيش يا أمي. هما تلات شهور الصيف إن شاء الله وهكون عندك

 

آآآآآه تلات شهور بحالهم! ربني يصبرني عاد لحد ما تعاود يا ولدي

 

ابتسم وقبل يد والدته

 

 

*************************************

انتظرت صفية حتى أتى يوم الخميس, حيث عادة عالية ووطفة الأسبوعية في الذهاب إلى عمتهما جميلة باكراً والبقاء لديها حتى يغمض النهار أجفانه..وخلا القصر إلا منها ومن طريح الفراش وخادمتها حورية, فنادتها على الفور: حورية, بت يا حورية

 

نعمين يا ست

 

اطلعي ع المستوصف ديلواك وهاتيلي البت اللي اسميها ورد

 

...ورد!!!

 

جوليلها بينك وبينها ومن غير ما حد يسمع, الست صفية عايزاكِ لأمر فيه صالحك وصالح محمود

 

محمود بيه ولدك!..وايه صالحه عاد بالبت ديّ؟

 

يا بوووي على رط الحريم الماصخ. غوري يا بت جولي اللي جولتلك عليه, وما ترجعيش إلا والبت ديّ في يدك, وجوليلها اللي يسألك رايحة وين يا ورد, جولي الست صفية عيانة ومشيعالي اديها حجنة

 

حجنة!!

 

يلا همي ما حدناش وجت يا واكلة ناسك انتِ

 

حاضر يا ست, حاضر

 

*************************

دلفت حورية إلى المستوصف, فلم ترمق الفتاة التي واراها زحام المرضى أمام مكتبها,فأخذت حورية تزيح الناس عن طريقها حتى وصلت إلى الفتاة, ومالت على أذنها وهمست: إنتِ ورد, مش كديه؟

 

نظرت إليها الفتاة بدهشة وقالت: ايوة آنا

 

آنا جاياكِ من طرف الست صفية ام محمود بيه

 

ارتجف قلبها وشعرت بقشعريرة تسري في جسدها وعلا وجهها الاضطراب, ابتلعت ريقها وسألت بنبرة مرتعشة: خير

 

خير ان شاء الله يا صبية, الست عايزاكِ في السرايا ديلواك وبتجولك الأمر فيه صالحك وصالح محمود بيه

 

انقشع الروع عن قلبها وبدت ابتسامة خجلى على محياها وقالت: صالحي وصالح محمود!

 

ايوة عاد, الست جالت كديه. بس بتجولك اللي يسألك رايحة وين, جولي رايحة للست صفية اديها حجنة اكمنها عيانة

 

طيب بس مش هجدر اجي معاكِ ديلواك, كيف ما انتِ ناضرة عندي شغل كاتير

 

وماله, هجعد استنظرك , حكم الست جالت ما ترجعيش من غيرها

 

طيب, كلها ساعة زمن بالكاتير واجي معاكِ

 

انفعل أحد المرضى: ما تخلصينا يا بتي عاد

 

حاضر يا عم الحاج, حاضر. اديني اسمك

 

******************************

كانت صفية تذرع ردهة القصر ذهاباً وإياباً وتزفر وتكيل السباب لحورية التي تأخرت في المجيء بالفتاة وتتوعدها حين مرآها. فجأة تسلل إلى مسامعها صوت حورية يأتي من بعيد وكأنها تحدث أحداً, فتيقنت أنها جاءت بالفتاة, ابتسمت بمكر وأسرعت بالجلوس على الأريكة, فإذ بحورية تدخل والفتاة تتبعها, أشارت إلى الفتاة وقالت لسيدتها: ورد أها يا ست

 

أخذت صفية  تتفرس في الفتاة التي تقف على استحياء وتلصق عينيها بالأرض, فأعجبها حسنها,وكاتمت نفسها حديثاً( عشان كديه الواد اتجرأ  و وجف جصادي عاد..مليحة البت, مليحة صُح, وتخلي أي راجل عقله يتوه منيه ويبيع أهله وناسه عشانها مممم) أفرجت عن ابتسامة صفراء وقامت إلى الفتاة بود وأخذتها في أحضانها وهي تقول: يا مُرحب يا ورد, مُرحب بمرت ولدي

 

انفرجت أسارير الفتاة, بينما اندهشت حورية وفغرت فاها, فأومأت لها صفية بالانصراف, وعادت تقبل الفتاة التي ابهجها الترحيب وتشيد بجمالها: لا والله صُح عرفت تختار يا محمود يا ولدي, امك داعيالك عاد هاها

 

ردت الفتاة بنبرة نسجتها السعادة: ربنا يخليكِ يا خالة

 

لاه خالة ايه! آنا بجيت امك ديلواك..جوليلي يا امّا

 

ردت بابتسامة خجلى: ربنا يخليكِ يا امّا

 

هاها, تعالى يا بتي اجعدي على الكنبة ديّ, سرايتك ومُطرحك عاد

 

جلست الفتاة على الأريكة  والحياء يكبلها, فجلست صفية إلى جوارها, وربتت على كتفها وقالت: ها ما جولتليش يا مرت ولدي, أيه رأيك في السرايا عاد؟

 

ردت بصوت خافت: مليحة وحلوة جوي

 

هاها يحلي دنيتك عاد يا بتي..محمود عنديه سرايا أحلى منيها, هتبجى ستها عاد

 

ابتسمت بحياء ولم تنطق, فاستطردت صفية: تعرفي يا ورد, آنا كان نفسي ومنى عيني يبجى عندي بت, لكن ربنا ما عاطنيش عاد, بس كانّ الزمان ضحكلي وبعتك ليا يا بتي

 

إن شاء الله ابجى بتك صُح وترضي عني يا امّا

 

راضية يا بتي, راضية وجلبي عم يرجص من الفرحة. ولدي محمود الصاغير هيتجوز بت كيف الجمر في سماه, لاه وايه, أدب ورباية زينة وحسها كيف الجمرية اللي عم تزجزج في الصبح

 

ابتسمت خجلاً ولاذت بالصمت

 

لكن ما جولتليش يا بتي, وين أهلك وناسك؟

 

ماليش, بوي وامي وماتوا, وجرايبي فقرا وعلى كد حالهم, هملت نجع ابو غريب وجيت نجع ابو المنصور عشان اشتِغِل واشيل هم نفسي

 

يا عيني يا بتي! يتيمة! جطعتي جلبي عاد

 

دمعت عيناها كذباً وضمت الفتاة لصدرها بحنو آفك وهي تقول: تعالي في صدر امك يا ضي عيني. خلاص يا بتي الهم زال وما بجتيش وحدك. بكرة محمود يبجى جوزك وسندك ودنيتك الحلوة..آآآه يا بتي ع الزمن وجسوته, يشيب الصاغير جبل الأوان ...خلعت صفية من أصبعها خاتم من الماس وأمسكت بيد الفتاة ووضعته في أصبعها وهي تنظر إليه وتقول متهللة: يا بوووي, هياكل من صوبعك حتة

 

فسألت الفتاة ذاهلة وهي تنظر إلى بريق الماس في أصبعها: ايه ديه يا امّا؟

 

ديه خاتم ألماظ هديتي ليكٍ عاد, ولسة هدية جوازك من ولدي, وكماني شبكة محمود اللي هتكون كيف شبكة بت السلطان هاها

 

ابتسمت الفتاة بخجل يمازجه الابتهاج, فربتت صفية على كتفها وقالت: اسم الله على بتي الف اسم الله, بالإذن عاد يا ضي عين امك ورجعالك

 

انصرفت صفية, فأسرت الفتاة حديثاً إلى قلبها المنشرح( يا سلام! بجى هي دي الست صفية اللي الكابير والصاغير يرجف منيها ويعملها الف حساب ويجولوا عنيها جاسية وجلبها كيف الصخر!!صُح ناس حاسدة وجلوبهم ماليها السواد..دي طلعت طيبة, طيبة, طيبة, ولسانها بينجط شهد. يا بوي على حنية جلبها!!

 

**********************

 

 

ولحد هنيه وخلصت حلجتنا

 

اجابلكم السابوع الجاي إن شاء الله

 

وحابة أقول إني سعيدة ان عندي زهرتين بيحملوا نفس الإسم الجميل( رقية) ربنا يحفظهم ويبارك فيهم يارب ..حقيقي بكون في قمة السعادة بقرائي اللي في سن الزهور ده أكتر من سعادتي بالكبار ههه ولو ان الكبار دول حبايب قلبي وأغلبهم الناس اللي حوالية طوال سنوات الكتابة الماضية وإن شاء الله القادمة كمان

 

أحب أشكر حبيباتي على تعليقاتهم اللي بسعد بيها دايماً, وبسأل وينهم الغايبين الغاليين؟؟

 

بسملة, رقية, سلوى .عفاف. جوجو, أم حمزة, أم راشد, أسماء, سماح, أم رفيف, أم هبة, كاميليا محمد, سمسمة محمد, نور الحق, أم عبد الرحمن الهيثمي, لولو, الدكتورة رشا, حواء أم هالة, وفاء علي

 

لا تنسوا ذكر الله والصلاة والسلام على الحبيب

 

لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله