ربع جبنة بيضا






أوه, يا إلهي ,كم هي ثقيلة الأكياس التي أحملها منذ خرجت من السوق التجاري الكبير , آآه يدي تكاد تتمزق أوصالها ,لم يبق معي نقوداً تكفي لاستئجار سيارة, بقى الكثير على المنزل وعليّ أن أتحمل ..آآه يدي .أتمنى ألا أكون قد نسيت شيئاً من طلبات زوجي وأولادي ..أحضرت الجبن الرومي والريكفورت  واللبنة السورية التي  يحبهما زوجي  ولم أنس علب التونة والسلمون والمقبلات,وأحضرت اليوجرت بالفراولة ورقائق البسكوت بالشيكولاتة والمقرمشات التي يحبها ولدي ,ولم أنس عصير الفواكه وشرائح البطاطس والجبن التشيدر التي تحبهم ابنتي مممم وأحضرت أكياس المعكرونة المختلفة الأشكال والأرز، وعلب الصلصة والكاتشب والمستردة والمايونيز والبهارات الهندية والبهارت الصينية وبهارات الكبسة وبهارات اللحم وبهارات الدجاج ,  لم أنس جراب ريموت التلفاز والمنظفات وعلب الشامبو التي تناسب كل واحد منا على حدة ,وبعض الكريمات الخاصة لنعومة يدي والمناديل الورقية الخاصة بكل الاستعمالات ممم اعتقد انني لم أنس شيئاً ,اوه يا إلهي ,قد نسيت علب اللبن المنزوع الدسم ,لا أعلم لمَ يحبه أولادي رغم أنه لا طعم له ولا فائدة فيه , عليّ أن آتي به ,النقود لا تكفي إلا لعلبة واحدة ..ممم لا توجد أسواق كبيرة ها هنا ممم أنعطف إلى هذا الشارع الضيق ربما وجدت ,آآآه يدي ,لولا علمي أن أولادي سيغضبون إن لم أرجع باللبن لما أضفت إلى نفسي مزيداً من العناء

..قاربت على إنهاء الشارع ولم أجد أي محل ..لالا ,هاهو ,يوجد دكان بقالة صغير في نهاية الشارع ..يا إلهي! دكان قديم ويحمل عبق الماضي ,أرفف خشبية صفت عليها بعض العلب البسيطة ,يجلس فيه رجل عجوز طيب على كرسي خشبي قديم,وأمامه فاترينة زجاجية بها بعض الحلوى للأطفال كتلك التي كنا نراها عند بقال الحي ونحن صغار ,وبعض أنواع الجبن وإلى جانب كل نوع سكين خاص به ,وعلى المنضدة ميزان من عهد مضى..  كم تتشابه ملامح  هذا البقال  ببقال حينا  الذي كانت ترسلني أمي إليه وأنا صغيرة,  كانت تناديني وأنا ألعب مع أولاد الجيران على درجات السلم ,وعندما آتيها وأقول (نعم يا ماما ) تعطني نقوداً وتقول ( روحي عند البقال هاتي ربع جبنة بيضا وتُمن زتون عشان العشا ) ياااااه ما أجملها من ذكريات,كانت أمي ترسلني لجلب ما تريد من دكاكين الحي دون خوف علىّ,كان الأمان سمة الحياة ,كل الناس أهل لنا وبيوتهم هي بيوتنا وأعين جميع الكبار حراس للصغار ,الآن أخشى على صغاري من جميع من حولهم ,اتشبث بأيديهم الصغيرة وأترقب الطريق والأعين والنظرات خوفاً من وجود لص أو خاطف أطفال ,أظل طوال الطريق انتفض رعباً وأتصبب عرقاَ إلى أن أعود بصغاري سالمين إلى المنزل, فأغلق الباب على عجل واتنفس الصعداء ,يا إلهي! أي عالم نحيا فيه!حياة الوحوش أرحم, ليت الحياة ظلت كما هي دونما تغيير ,كم كانت جميلة جميلة
 لم تكن موجودة هذه الأسواق التجارية الكبيرة ذات السلع الاستهلاكية الاستفزازية والتي تبتلع كل نقودنا دونما داع ,ندخل إلى السوق فتجذبنا وتجذب أطفالنا المنتجات ذات الأشكال الملونة ,أنواع لا حصر لها من كل شيء ,ندخل لنبتاع صنفين فنخرج بعربة محملة بعشرين صنف ,ويسحب الكاشير من الأكياس ويعد ويعد وتسجل الماكينة الآلية المشتريات التي لا نحتاج تسعين بالمائة منها ,يعطنا فاتورة الحساب الطويلة المكتظة بالأرقام لندفع ونقودنا تئن لوجودها مع السفهاء أمثالنا

...لكن في الماضي الجميل ,كنا لا نذهب إلى البقال إلا لنحضر ما نحتاج ,نقف خارج الدكان إلى جوار صناديق المياه الغازية الفارغة والثلاجة الحديدية  ,ونطلب من البقال طلباتنا التي نحتاجها ,فقط التي نحتاجها و تكفينا كأسرة لمدة أيام  وليس ما يكفي قارة إفريقيا لمدة شهر ..يااااه ,يا لها من ذكريات بسيطة ببساطة الماضي .تذكرت الجيران ,طيبة القلوب ,الابتسامات من القلب التي كانوا يلقوننا بها ,مشاركتهم لنا في كل أفراحنا وأتراحنا..اليوم لا نعرف جيراننا ,وإن عرفاهم ربما ندمنا ,الجار أصبح يعتبر جاره غريباً أو عدواً ,وربما أوشى به أو تفنن في جلب المتاعب له ,وكأنه لا يحب أن يحيا جاره أمناً مطمئناً ..أصبح الكثير من الجيران غير مأمونين الجانب ,يارب رحماك
.ماالذي جعل حياتنا بكل هذا التعقيد ! أصبحت جل الأشياء والعلاقات  بلا طعم ولا فائدة كاللبن الذي يحبه أولادي

كنا نملك القليل من المال ولكننا كنا نملك الكثير من المشاعر والمودة
اليوم ربما نملك مالاً أكثر ,ولكن الكثير من المشاعر ماتت كمدا لأننا لم نقدر وجودها,بل دهست تحت عجلات الحياة المادية التي لا تعترف بالعاطفة

أصبحنا كائنات آلية ,وعلاقاتنا زجاجية ..ليت الزمان يعود بي لأيام الزمن الجميل وصفاء النفوس والملابس البسيطة والبقال ...ياه سرحت كثيراً في الماضي ولم أنتبه إلا عندما ابتسم البقال العجوز وقال لي (عايزة حاجة يا بنتي ) تشبثت بالماضي بكل قوتي  ورددت بابتسامة  طفولية (ربع جبنة بيضا وتمن زتون لو سمحت )



تعليقات

  1. رآئعة جدا كما عاهدناك حبيبتي بارك الله فيك
    معك كل الحق فيما قلتيه

    ردحذف
  2. ماشاء الله تبارك الله اسلوبك مشوق جدا تسلم ايدك يا جميلة يا هوبة😍
    فعلا مفيش احسن من ايام زمان والعيشة البسيطة

    ردحذف
  3. روووعة ... روووعة .... روووعة
    كلنا لما بنكبر بنحن لأيام الماضي الجميل
    جزاك الله كل خير يا حبيبتي ع القصة الجميلة دي رجعتينا لأحلى أيام وأحلى سنين ...
    🌷دمتي متألقة 🌷

    ردحذف
  4. قصة ممتعة ورائعة كروعتك هوبتي 😍

    ردحذف
  5. جميله يا هوبه فكرتينا بالذي مضى وايام زمان الجميله وبركتها وبركه أهلها
    ماتغيبيش عننا تاني يا هوبه افتقدناكي جدا الفتره اللي فاتت أنا فكرت انتي حجبتي ناس معينه وانا منهم ومش عارفه اراسلك ازاي

    ردحذف
    الردود
    1. انتِ الأجمل يا ام هبة..لا والله ظلمتيني ههه كانت محجوبة عن الجميع حبيبتي , انتِ منورة المدونة يا ام هبة يا عسولة

      حذف
  6. الله جميله اوي تسلمي وتسلم ايديك

    ردحذف
  7. راااااائعة بجد و أكتر من راااااائعة...
    صدقتي غاليتي أصبحنا في زمن تاهت فيه الروابط اﻻجتماعية و العلاقات اﻹنسانية و بتنا كاﻵﻻت نسعى وراء المال بكل جهدنا حتى نسينا أنه وسيلة للعيش ﻻ الغاية منها
    سلمت يداك غاليتي ♥♥♥

    ردحذف
    الردود
    1. أنتِ الأروع لولي حبيبتي, سلمك الله من كل سوء آمين

      حذف
  8. فعلا أيام زمان كان فيها كل الخير والبركة
    بالرغم من اننا مش كبار في السن واظن معظمنا في التلاتينات او الأربعينات بالكتير إلا أن معظم الردود مشتاقة لايام زمان وكأن زمان ده كان من 100 سنة

    للأسف أحوال الناس وسلوكياتهم اتغيرت كتير جدا للنقيد في سنوات بسيطة
    الوحدة عمت كل البيوت او معظمها
    مبقاش في جيران من بتوع زمان نقضي يومنا كله معاهم واللي يغيب يسألوا عليه
    مبقاش في ود بين الاهل وزيارات عائلية يجتمع فيها كل الأحباب في بيت العيلة الكبير يوم الخميس
    كل أسرة بقت مكتفية بأولادها وأولادهم وبس
    وباقي العيلة بتجتمع في الافراح او العزاء وفقط

    مفيش أمان في الشوارع
    بنفضل ندعي ربنا طول ما اولادنا بره البيت ونستودعهم الله لحد ما يرجعوا

    عجبتني جدا جملة ( وأعين جميع الكبار حراس للصغار )
    فعلا الناس زمان كانت كده
    وياريت الزمان يرجع بينا

    ردحذف
    الردود
    1. آه والله كانت أيام زمان كلها خير وبركة, وبالفعل كلنا جوانا حنين لأيام زمان, كلامك كله مظبوط يا ولاءعن أحوال العائلات في عصرنا وعن الأمان المفتقد, ربنا يرحمنا..ياريت الزمان يرجع...تظل أمنيات

      حذف
  9. جميلة اوي يا هبة جميلة بريحة زمان وكل حاجتهم فكرتيني انا كمان لما أمي الله يرحمها كانت تعمل الشاي بلبن في العشا مع ساندوتشات الجبنة البيضا كان كل حاجة جميلة فعلا

    ردحذف
    الردود
    1. والله انتِ الأجمل يا دودو. الله يرحمها ويرحم أمي وجميع موتى المسلمين آمين .ياريت في آلة للزمن فعلاً ونرجع بيها لأيام زمان وما نرجعش العصر ده تاني , واجي اشرب معاكِ شاي بلبن مع سندوتشات جبنة بيضا ههه

      حذف

إرسال تعليق