حكايات البواب ..الأولى ( البلغة)

 




تراه في ثيابه الرثة, يقف على طرقات المدينة, وينادي الراغبين في كراء وحدة سكنية لقضاء أيام العطلة في ربوع الإسكندرية..... بعد أن يبح صوته، يحصل على ضالته.. يصحب الزبون حاملاً عنه الحقيبة إلى عدة وحدات فيختار من بينها ما شاء... يأخذ الإيجار، ثم يتسول سمسرته بتذلل وانكسار شاكياً سوء الأحوال وصغاره الذين يتضورون جوعاً.. ينتش ما جاد به الزبون الذي رأف بأحواله.. يقبّل النقود جذلاً ويدسها في جيبه، ويمضي باحثاً عن زبون آخر.

يا له من بائس ذو حظ عثر.... وكم هي شاقة وغير معبدة للسائرين دروب الحياة!

 

أراك عزيزي قد تعاطفت معه وانفطر قلبك لأجله....لا....انتظر.

 

إن هذا الرجل البائس ذا الثياب المهلهلة، ما هو إلا مالك لعدد كبير من الشقق والمحال في هذا الحي وغيره من الأحياء السكندرية.

 

ليس له وحدات سكنية في البناية التي أحرسها..ولكنني اعتدت على رؤيته في الصباح وأنا أجلس أمام البوابة ... يأتني بذات البُلغة الممزقة المتربة في قدميه، والتي تحتك بالأرض محدثة جلبة وكأنها عناد.. يقف أمامي ويخرج من جيبه جنيهات مهترءة حد الضياع.. يمد إليّ يده في تعال ويطلب مني أن أذهب إلى المطعم الفقير الكائن في أحد الأزقة البعيدة عن هذا الحي الراق، وأجلب له قرصين من الفلافل ورغيف من الخبز حتى يسد رمقه.

 

أمضي في طريقي متعجباً من حال هذا الثري الرث! لِمَ يحيا حياة الخدم، وهو يملك ما يملك السادة ذوي السيارات الفارهة!!... فهو زوج وأب لابنة واحدة.. ويحرم عليهما التنعم بماله وثرائه.. بل ويحيا هو بذاته حياة البؤساء... كيف يضن بماله على فلذة كبده!! ... فرغم فقري، وكوني مجرد حارس عقار، فأنا لا أحرم نفسي ولا أحرم أطفالي الثلاث حتى من الأشياء الباهظة الثمن.. أتذكر أنني اقتطعت من قوتي لأدخر ثمن بعض قطع الكيك الملون ذا الاسم الإفرنجي التي ألصقت صغيرتي عينيها بها، حين مررنا بجوار الفاترينات الزجاجية لمحل الحلوى الكبير، الذي ينتهي به الشارع الفخم الذي يحوي البناية التي أحرسها...... حقاً ما أشقى زوجته وابنته .... ولكنهما بالتأكيد يومأ ما ستسعدان عندما يموت ويؤل إليهما هذا الإرث الضخم.. ويكون هو فارق الحياة التي لم ينعم فيها إلا بقرصين فلافل وبلغة .... هيييييح ...لا شأن لي...فالدنيا بها من الغرائب ما تتسع معه الأعين وتفغر له الأفواه.

 

أعتاد حارس البناية التي يقطنها هذا الرجل، أن يأتني وقريب لي يجالسنا لنحتسي شاي العصاري ونتسامر أمام البوابة، فكان يحدثنا بنوادر هذا الثري الرث وحكاياته مع البخل والشح، فنضحك ملء أشداقنا.

 

اختفى الثري الرث بضعة أيام، فلم نلمح له ظل ولا أثر......وفي ساعة العصاري لهذا اليوم، جلست أنا وقريبي نحتسي الشاي ونتسامر، فأتانا حارس عقار بناية الثري الرث، فسألناه عن هذا الرجل فقال ... مات... فانفجرت أنا وقريبي ضحكاً حتى سقطنا من فوق المقاعد وأعيننا قد أدمعها الضحك.

 

{{{تمـــــــت}}}}

 حكايات بواب عمارتنا 

تصيغها لكم. هبة نور 


 

 

تعليقات

  1. تسلم ايدك حبيبتي
    اللي زي ده اللي بيجمع الفلوس لغيره وبيحرم نفسه منها لأنها مش رزقه رزق غيره

    ردحذف
  2. على رأى المثل (مال الكنزي للنزهي)

    ردحذف
  3. حاجة تحزن بجد ربنا يعافينا من البخل والبخلة
    حقيقي مش عارفة ازاي بيعملوا كدة فنفسهم واهلهم خصوصا زي الاثرياء اللي زي دة
    والله اسمع عن واحد اللهم بارك مليونير ومبيروح الشغل في الاتوبيس النقل العام عشان ميدفعش فلوس كتير فالبنزين ويهين سيارته

    ردحذف
  4. جزاك الله خيرا
    البخل اسوء صفة فى الدنيا

    ردحذف
  5. المضحك المبكي 😐
    سبحان الله حرم نفسه والورثة حيورثوه 😁

    ردحذف
  6. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استعاذ من البخل
    اللهم إني أعوذُ بك من الجُبن والبخل
    إنه حتى لم يبخل به على نفسه واهله في الدنيا فقط بل سيُسأل عنه يوم القيامة أيضا..

    "يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون"
    الحمدلله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا

    ردحذف

إرسال تعليق