أنا وكيفن وضوء القمر ( الثلاثون)

 


بعد خروج عبد الله إلى العمل، نزلت مانويلا لانتظار حفصة لدى عائشة، قرعت الجرس، ففتحت لها عائشة مرحبة بوجه باش:

ـــــ حبيبتي، حبيبتي، مرحباً بالعروس الجميلة، تفضلي

تبدت بسمة باهتة على محياها وقالت:

ـــــ أشكرك. جئت لأنتظر حفصة عندك

ـــــ تفضلي حبيبتي، فهي على وصول إن شاء الله

نظرت مانويلا إلى وجه عائشة الباسم، وعينيها الحانيتين، وتذكرت جميل صنائعها معها مذ أن رأتها، فأجهشت بالبكاء ونطقت بما أعلنه قلبها الذى عاف التمرد:

ـــــ عائشة... أنا أحبك

ـــــ ههه وأنا أيضاً أحبك حبيبتي والله . ولكن لِمَ البكاء ؟

ردت بصوت هدجه النشيج:

ـــــ لا شيء، لا شيء

ـــــ هاها أنا قد علمت السبب

ارتعدت وقالت بارتباك:

ـــــ ها! علمتِ! آآآ ماذا علمتِ ؟

ـــــ هاها أنتِ تبكين لأنك يا مسكينة تظنين أني سأبتعد عنكِ واتركك وحدك عندما تتزوجين ههه لالا، أنا لن أترك حبيبتي زينب، فأنتِ شقيقتي الصغرى يا حبيبة. أتم الله أمر زواجك على خير اللهم آمين ورزقك الذرية الطيبة آمين.

أنخرطت مانويلا في بكاء مرير، فهال عائشة ما رأت، فربتت على ظهرها وقالت متلهفة:

ـــــ لا لا، ماذا هنالك حبيبتي بالله ؟ أهناك شيء يضايقك يا زينب؟  أهناك أمر يصعب عليكِ؟ . حبيبتي  صارحيني فأنا أختك

قالت وسط غمار الدموع في عينيها:

ـــــ لا شيء يا عائشة. فقط أريد أن أبكي

ـــــ هاها ممم فهمت. ربما تخافين من الزواج . لا تقلقي حبيبتي، فالحياة الزوجية ليست صعبة كما نتصور قبل زواجنا. فقط عليكِ بتفهم طباع زوجك والإحسان إليه قولاً وفعلاً، وستجدين خيراً إن شاء الله

كانت كلمات عائشة المنبعثة عن سلامة طويتها، كالسياط تجلد قلبها النادم فيصرخ ألماً يصدع دواخلها، فيزيد معه نحيبها..شرعت ذراعيها وقالت بنبرة حانية وكأنها تودعها:

ـــــ عائشة.. أريد أن أضمك لصدري

ـــــ يا حبيبتي ! تعالي إلى  صدري يا حبيبة، تعالي فوالله  أنا  دائماً أشعر أنكِ أختي  الصغرى المدللة التي تشبه القطة الناعمة الجميلة هاها تعالي يا قطتي الحلوة

في أحضانها ذرفت عبرات من لهيب، ونطقت باسمها وقلبها يتجرع الآلام:

ـــــ عائشة، عائشة

ـــــ كفاكِ بكاء يا حبيبتي. تأكدي أنني لن أتركك أبداً صدقيني . سأستأذن زوجي في زيارتك أسبوعياً إن شاء الله، ودائماً سأهاتفك  يومياً إن شاء الله

قالت وعبرات الندم تغمرها:

ـــــ أشكرك، أشكرك عائشة

قطع الحديث الشجي، صوت جرس الباب، فتهلل وجه عائشة وقالت:

ـــــ جاءت حفصة الحبيية، سأذهب لافتح الباب

فتحت، فحيتها حفصة باسمة:

ـــــ السلام عليكم يا عائشة

ـــــ وعليكم السلام ورحمة الله، مرحباً حفصة حبيبتي، تفضلي، زينب في انتظارك

ـــــ يبدو أنها متعجلة أمر الشراء ومتلهفة جداً، وبالأمس تتظاهر أنها لا تريد شيئاً. تباً للمكر.

ـــــ هاها كل عروس تشتهي الشراء وتجري على الأسواق قبل زفافها يا حفصة،  لا شأن لكِ بزينب هاها

ـــــ أين هي؟

جاءها صوت مانويلا الناشج:

ـــــ أنا هنا في انتظارك

هرعت إليها حفصة وقهقهت لمرآها تبكي، وقالت بدهشة:

ـــــ  مابكِ؟؟ تبكين!! لالا، لأول مرة أكتشف أن لديكِ مشاعر كسائر البشر يا زينب. ما يبكيكِ ؟

ـــــ لا شيء، هيا لنذهب للتسوق

ـــــ مابها هذه يا عائشة ؟

ـــــ هههه ربما متوجسة خيفة من أمر الزواج . لا تنسي أن أحمد غريب عنها، وبالتأكيد تخشى الحياة مع من لم تألفه

قهقهت حفصة وقالت وهي تهز رأسها منكرة السبب الذي ذكرته عائشة:

ـــــ هاها لالا، ليست هذه من تبكي لذلك. هذه تخشى أحمد !! العكس صحيح، والأولى بالبكاء والخوف من الزواج منها هو أحمد وليس هي

انفجرت عائشة بالضحك وقالت وهي تضرب كفاً بكف:

ـــــ على آخر الزمان الرجل يبكي خوفا من الزواج هههه

أستطرت عائشة:

ـــــ  لولا أننا في نهار رمضان لقلت اجلسي وتناولي شيئا

سددت حفصة نظرة امتعاض لمانويلا وقالت لعائشة:

ـــــ ناوليني هذه الزينب حتى انطلق . سأسبقك إلى السيارة واتبعيني يا زينب

ردت بنشيج وقد قامت عن مقعدها:

ـــــ سأتبعك.

قبل أن تغادر، اتجهت إلى عائشة وقالت بود يمازجه النشيج:

ـــــ أتريدين شيئاً قبل انصرافي يا عائشة ؟

ـــــ لا يا حبيبة . اذهبِ وتسوقي واشتري ما شئتِ من أحلى وأجمل الثياب والأغراض وأدوات الزينة هاها

ـــــ زينة!!....استأذنك

ـــــ تفضلي حبيبتي، في رعاية الله

************************************

وصلتا إلى أحد محال الملابس، فجبذت حفصة ذراعها بعنف وقالت:

ـــــ ها نحن وصلنا لمحل الملابس، هاتي ذراعك، تعالي

ـــــ آآآه ذراعي، لماذا تجذبينني هكذا بقوة! أوف!

دفعتها إلى أحد الممرات وقالت بحدة:

ـــــ ادخلي هنا، أنظري أمامك أفخم وأفخر الثياب، فاختاري ما شئتِ 

نظرت إلى ألوان الثياب الزاهية، وقالت وقد اتسعت حدقتاها:

ـــــ ما هذا!! إنها ثياب ملونة.

ـــــ وما العجيب في ذلك يا هذه ؟

ـــــ نحن لا نرتدي الألوان، نرتدي الأسود فقط

ـــــ أعوذ بالله. من أنتم؟ عمن تتحدثين؟

ـــــ آآآ أنا والعرائس

ردت حفصة بانفعال:

ـــــ عرائس .أرأيتِ يا هذه في عمرك، عمرك الذي أرجو أن  ينتهي الآن رحمة بالبشر . أرأيتِ في عمرك عروس ترتدي الأسود!!. أسود في بيت الزوجية!!

ـــــ ما شأني أنا بغيري! أنا أحب الأسود

زفرت حفصة وجبذت كفها بعنف وقالت باحتداد:

ـــــ أوف! تعالي، تعالي

ـــــ آآآه اصابعي، أصابعي ستكسريها اهئ اهئ

ـــــ ما رأيك في الثوب الأحمر هذا؟ أليس رائعاً بحق ؟

ـــــ أحمر!!

ـــــ دعك من الأحمر. أنظري إلى هذا الأصفر الزاهي

ـــــ أصفر!!

ـــــ لا حول ولا قوة الا بالله . دعك من الأحمر والأصفر، انظري إلى هذا القرمزي الرائع

ـــــ قرمزي!!

ـــــــــ أوف!! اختاري ما شئتِ، فأنا سئمت منكِ

أخذت عينها تتنقل بين الأثواب الزاهية في حيرة، ثم هزت رأسها وقالت ناشجة:

ـــــ لا يصلحون جميعا، لا يصلحون، إنها ألوان زاهية براقة جميلة وأنا لا ألبس هذه الألوان, إنها ليست لي

أزاحتها حفصة من أمامها بعنف، وقالت متأففة:

ـــــ كفاكِ نواحاً . سأختار لكِ أنا، فمن الواضح أنك تجهلين اختيار الثياب ذات الأذواق الراقية

غمغمت ناشجة:

ـــــ افعلي ما شئتِ، في آخر الأمر لن أرتدي منها واحداً

أختارت حفصة أحد الأثواب وأشارت إليه قائلة:

ـــــ انظري الى هذا الثوب المزركش

ـــــ مزركش!! كيف يرتدون هذه الأشياء!!

ـــــ المرأة يجب أن تتزين لزوجها، فهذا من حسن التبعل، ويجب أن ترتدي أجمل الثياب وأروع الألوان . أعلمك شيئاً لزمانك رغم أنك لا تستحقين

ردت باكية:

ـــــ افعلي ما شئتِ يا حفصة

ـــــ أوف! سأفعل ما أشاء، وأختار ما أشاء، وارحميني من صوت بكائك الذي يشبه الغراب الناعق في أذني

ردت بنشيج أعلى:

ـــــ سمعاً وطاعة

*********************************************

بعد أن انتهتا من التسوق، قالت حفصة بامتعاض:

 

ـــــ والآن بعد أن  أحضرنا  لكِ الثياب وأدوات الزينة  والأحذية وحقائب اليد الجميلة التي لا تستحقينها، هيا لنذهب إلى منزلك الجديد  لتضعيها في خزانة ملابسك  

ـــــ منزلي الجديد!.... خزانة ملابسي!!...حسناً، هيا

ـــــ هيا احملي معي هذه الشنط

ـــــ ما هذا! هل سأحملها معك يا حفصة ؟

ـــــ هل أخبرك أحد أنني  أنا  من جلبها زوجك من الفلبين لتخدمك يا ملكة عصرك ؟؟

ـــــ لِمَ تسخرين مني ! أنا أسأل مجرد سؤال

تعجلتها حفصة بضيق:

ـــــ هيا، هيا، أود أن نفرغ من هذه الأمور، وأذهب بسرعة لبيتي وأنتظر زوجي. لا أحب أن يعود زوجي من الخارج ولا يجدني

ـــــ وإن حدث ذلك، فما الضير!

ـــــ احترام الزوج واجب يا هذه

هزت مانويلا رأسها ثم قالت بنشيج:

ـــــ تعلمت منك أشياء لن أستفيد منها

*************************************

تعجلتها حفصة لركوب السيارة:

ـــــ هيا اركبي، هيا، هيا لكي أرجعك  لمنزلك وأنطلق  لمنزلي، هيا، مالك تتلفتين كالعنزة ؟

ـــــ انظر الى الشوارع ووجوه المارة

ـــــ أحضر لكِ لوحة وريشة كي ترسميهم!! هيا

ما أن دلفتا إلى السيارة، حتى دق هاتف حفصة، إنه زوجها محمدـ، ردت على الفور:

ـــــ السلام عليكم

ـــــ وعليكم السلام يا حبيبتي. هل انتهيتِ من الشراء أنتِ وزينب ؟

ـــــ أجل حبيبي الحمدلله انتهينا، عائدين إلى منزل زينب

ـــــ لا. من فضلك تعالي إلى المعرض، أمي هنا وسنتناول الإفطار هنا

ـــــ هاها في المعرض ؟

ـــــ هاها للتغير

ـــــ حسناً، سأرجع زينب وأعود  إليكم 

ـــــ لا . أمي  تريد زينب أيضاً

ـــــ أووف!! . منذ الصباح وهي معي وبرفقتي حتى كدت أختنق، وسأتناول الإفطار معها أيضاً!! والله اخشى أن تبيت بأحضاني الليلة حتى يكتمل أنسي بها

انفجر محمد ضاحكاً وقال:

ـــــ ليست لهذه الدرجة . بعد الإفطار سيعدها  لبيتها أحمد وأمي إن شاء الله 

ـــــ ممم يبدو أن أخاك هو من دبر هذا اللقاء هاها صاحب عقل مدبر كأخيه تماماً هاها

ـــــ هاها من شابه أخاه فما ظلم . أنتِ وزينب ستجلسان مع أمي، وأنا وأحمد مع أبي

ـــــ حسناً حبيبي

ـــــ فقط استشيريها في الأمر

ـــــ بغير استشارة، بالتأكيد موافقة. انتظرنا فنحن في الطريق اليكم إن شاء الله . السلام عليكم

ـــــ وعليكم السلام حبيبتي

غضنت مانويلا حاجبيها وسألت:

ـــــ ماهذا! . إلى أين سنذهب يا حفصة ؟

ـــــ سنذهب لمعرض السيارات، ونتناول الإفطار هناك مع خالتي الزهراء

ـــــ مممممم وهل سيكون أحمد هناك ؟

ـــــ بالطبع

تهلل وجهها فرحاً وقالت:

ـــــ حقاً؟؟

 ثم تذكرت تحذير الراهبة صوفيا من رؤيته فارتعدت فرائصها وقالت بارتعاب:

ـــــ لكن ........ لا،لا، . لن أستطيع أن أراه، أخشى، أخشى، أخشى أن أراه

قهقهت حفصة وتندرت عليها:

ـــــ اختبئي منه خلف السيارات هاها

غمغمت باكية:

ـــــ يا ويحي، يا ويحي لو علمت الأم صوفيا

******************************************

بعد تناول طعام الإفطار الذي رغبت عنه مانويلا إلا قليلا، حاولت والدة محمد أن تبدد تلك الكآبة والوجوم على ملامحها وتخرجها عن تلك الصمت الذي لزمته، فربتت على كتفها وقالت باسمة:

ـــــ مرحباً يا ابنتي

ـــــ مرحباً خالتي الزهراء

استأذن أحمد في الدخول، فابتعدت والدته وحفصة ليخليا بينهما.. ما أن رآها حتى أشرق وجهه وقال:

ـــــ زينب، مرحباً بكِ

ـــــ أشكرك يا أحمد

ـــــ ممممم هل اشتريتِ كل ما تاقت نفسك إليه ؟

ـــــ لا . بل اختارت  حفصة لي

ـــــ ولِمَ لم تختاري أنتِ ؟

أجهشت بالبكاء وقالت:

ـــــ لا أعلم 

هالته تلك الدموع المتلئلئة في عينيها، فسألها متلهفاً:

ـــــ مابكِ يا زينب ؟ هل حدث ما كدر صفوك ؟ هل ضايقتك حفصة بأي شيء ؟

ـــــ لا

ـــــ إذن فلِمَ البكاء ؟

ـــــ لا شيء يا أحمد

ـــــ امي تنظر إليكِ في دهشة هي وحفصة . بالله صارحيني لو هناك ما يضايقك حتى اساعدك

ردت ثائرة:

ـــــ قلت لك لا شيء، لا شيء

ـــــ لا حول ولا قوة الا بالله.. إهدئي  يا زينب . هاها سأخبرك بشيء تطيب له نفسك

ـــــ ماهو يا أحمد ؟

ـــــ أتعلمين أنني منذ رأيتك أول مرة، زرعت زهرة في حديقة منزلي وسميتها زينب وأسقها كل يوم، كل يوم حتى تفتحت واصبحت من أروع ما يكون

تبدى الاندهاش على ملامحها وقالت:

ـــــ زهرة ! سميتها زينب! هل لي مكانة عندك إلى هذا الحد حتى تزرع زهرة وتسمها باسمي وتسقها كل يوم حتى تتفتح ؟

ـــــ ههه وكيف لا تكن لكِ مكانة كبيرة في قلبي، وأنتِ ستصبحين زوجتي بعد عدة أيام!. زواجنا الخميس القادم يا زينب وموعدنا مع الزهرة لنسقيها معاً كل صباح

تذكرت أن الخميس هو موعد مقتل عائشة، فانفجرت البكاء وقالت بنبرة مرتعشة:

ـــــ الخميس القادم

شعر بهول ما تعانيه، فبدى الابتئاس على وجهه وسألها بنبرة خافتة:

ـــــ زينب بالله ما يبكيكِ ؟ ... هل أنتِ غير سعيدة بالزواج مني يا زينب ؟

أطرقت تكابد ثورة البوح ولكن الكتمان سرعان ما أخمدها، فقالت بصوت متهدج:

ـــــ أحمد أنت طيب القلب، طيب جداً..أنا... أأأأأانا

ـــــ أنتِ ماذا يا زينب؟

ردت بارتجاف منتحبة:

ـــــ أنا خائفة، خائفة.. أنا في بئر عميق، عميق، ويدك تمتد لتنتشلني منه ولكن... لا أستطيع، لا أستطيع... اريد أن أذهب إلى منزلي، أنا متعبة، متعبة

ـــــ زينب كوني على ثقة أنني سأبذل كل طاقتي في إسعادك وسأعمل جاهدا على كسب قلبك ومحبتك وسأحتويكِ بكل حناني واخذك إلى عالمي الخاص الذي سيجمعنا أنا  وانتِ ونكون بيتا قوامه طاعة الله ومحبته وسنربي ابنائنا تربية إسلامية صحيحة إن شاء الله

ثارت ناشجة:

ـــــ يا أحمد ارحمني، ارحمني لا تعذبني بكلماتك، قلت لك متعبة وأريد الذهاب إلى منزلي

تنهد وأومأ برأسه واجماً، وقال:

ـــــ حسناً. هيا يا زينب.

نادى أمه مشيراً إليها:

ـــــ  أمي، هيا يا أمي

********************************************

منذ أن وصلت مانويلا إلى منزلها، ظلت حبيسة غرفتها تحادث نفسها ثائرة كالملتاثة، وقد أخذتها نوبة بكاء مرير:

ـــــ عدة أيام... عدة أيام ويسدل الستار... عدة أيام وأترك كل شيء وأعود من حيث أتيت .. عدة أيام  وتقتل عائشة وزوجها..عدة أيام  ويصدم أحمد عندما لا يجدني أمامه وكأنني جنية أتيته من عالم الجن ثم اختفيت عن الأنظار ... عدة أيام وستتحول الدنيا حولي إلى جحيم، جحيم...  يا كل ساعات العالم توقفي، توقفي، توقفي لا تأخذينا إلى الأنكال، ليتني ما جئت إلى هنا، ليتني ما جئت إلى الدنيا بأسرها ...أهٍ يا مصيري المحتوم آه.. لا شيء بيدي غير البكاء. كم الساعة؟ كم الساعة؟ ستدق الآن، ستدق حتى تصم أذني بصوتها المزعج، ستدق لتحملني هي ومن يتبعها من ساعات إلى مصيري الضبابي.

بدأت الساعة تدق، فزاد هياج مانويلا وظلت تصرخ في ساعة الحائط ذات الدقات المخيفة وهي تصم أذنيها بكفيها:

ـــــ تن

ـــــ اصمتِ، اصمتِ أيتها الدقات العاتية، اصمتِ

ـــــ تن

أصمتِ

ـــــ تن

أصمتِ لا أحتمل سماعك

ـــــ تن

ـــــ اصمتِ سأصم آذاني، أصمتِ

وكأن الدقات تدق في عناد لتعذبها وتذكرها بمصيرها المحتوم:

ـــــ تن

ـــــ تن

ـــــ تن

صرخت في جنون وعبراتها تغرقها:

ـــــ اصمتِ، اصمتِ، ليتكِ تتوقفي للأبد، ليتك تتوقفي للأبد...آآآه...لا أستطيع أن أتحمل البقاء هنا، كلما دقت الساعة أرى  قبر عائشة وزوجها يحفر، وكأنني أنا من سألقي بهما وأهيل عليهما التراب، لا،لا،لا

**********************************************

كان والد عائشة ووالدتها يستعدان للسفر في اليوم التالي لأداء العمرة، فقالت والدتها جذلة:

ـــــ كم أنا  فرحة يا سالم، الحمدلله سنسافر إلى العمرة غداً إن شاء الله

ـــــ هاها سبحان الله لا نمل أبداً من الذهاب إلى هناك . رحلات ممتعة إلى الأراضي المباركة

 

ـــــ الحمدلله حبيبي الحمدلله . ولكن هذه أول مرة نسافر بغير عائشة

ـــــ تسافر مع زوجها وولدها  العام القادم إن شاء الله

ـــــ سأهاتفها لأودعها قبل السفر يا سالم

ـــــ وأنا أيضاً أريد أن أسمع صوتها حبيبة أبيها

ضحكت والدتها وقالت ممازحة:

ـــــ تغار مني يا رجل، لأنني دائماً أقول حبيبة أمها هاها

ـــــ هاها هي حبيبة أمها وأبيها، فلا تغضبي

ـــــ حفظها الله وزوجها وأقر أعينهما بمولودهما اللهم آمين

ردت عائشة على اتصال والدتها متهللة:

ـــــ أمي، حبيبتي يا أمي، السلام عليكم

ـــــ وعليكم السلام يا قرة عيني . كيف حالك وحال زوجك؟ وحفيدي كيف هو ؟ هاها

ـــــ هاها يهديكِ السلام من داخل رحم أمه. هل ستسافران غداً إن شاء الله ؟

ـــــ أجل يا حبيبتي، لذا هاتفتك لأودعك، وإن شاء الله عندما نعود سنأتي لزيارتك

ـــــ إن شاء الله يا أمي

ـــــ ماذا تريدين من هدايا ؟

ـــــ هاها لا أريد لنفسي شيئاً، ولكن أريد لعبد الله . احضري ولو جلباب أبيض، ولا تنسي ولدي حبيبي هاها

ـــــ هاها أأهديه  قبل أن يولد!!

ـــــ يا أمي احضري له أي شيء حتى لا يغضب هاها احضري له ملابس جميلة، أعندك أغلى  منه ؟ ألا يقولون أن الأحفاد أغلى من الأبناء ؟ هاها

ـــــ هاها هو غالٍ وأمه  غالية . حفظه الله وأمه وأبيه وأتم  ولادته على خير اللهم آمين. أمرك يا أم عمر، لن ننسى عمر ولا أم عمر ولا أبا عمر هاها خذي أباكِ يود أن يهديكِ السلام

ـــــ هاتي أبي  حبيبي

ـــــ السلام عليكم حبيبتي عائشة زهرتي الجميلة

ـــــ وعليكم السلام يا أبي  يا حبيبي . سأفتقدك هذه الأيام حتى تعود يا غالي ههه

ـــــ ههه من يسمع ذلك يقول انكِ ترينني كل صباح.. منذ أن تزوجتي يا حبيبتي وأنا أراكِ على فترات بعيدة

ـــــ جمع الله شملنا يا أبي

ـــــ اللهم آمين يا ابنتي . سأهاتف عبد الله لأودعه إن شاء الله . أتريدين أي شيء ؟

ـــــ أريد دعواتك الصالحة لي ولزوجي يا أبي

ـــــ رزقكما الله كل الخير والطمأنينة والصحة والعافية يا ابنتي اللهم آمين . حفظكما الله من كل سوء

ـــــ اللهم آمين يا ابي .

ـــــ استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه حبيبتي

ـــــ في أمان الله يا أبي

********************************************

مرت الأيام سراعاً وأتى اليوم الموعود..استقبله أحمد بفرحة عارمة وقال لأمه:

ـــــ لا أصدق أن اليوم زواجي بزينب الحمدلله، الحمدلله

ـــــ هاها مبارك يا ولدي . متى ستذهب لتحضر زينب للعقد ؟

ـــــ بعد المغرب إن شاء الله

ـــــ على بركة الله يا ولدي

*******************************************

كانت مانويلا تجلس بملامح جامدة، ترقب هاتفها الملقى على المنضدة، في انتظار مهاتفة الراهبة صوفيا..لم يبق منها إلا عبرات حبيسة مقلتيها، وأنفاس ملتهبة، وروح منطفئة..دق الهاتف وظهر اسم الراهبة جلياً، ظلت تنظر إليه بوجوم حتى كاد الرنين أن ينتهي، أمسكت بالهاتف، وردت بفتور:

ـــــ مرحباً الأم صوفيا

ـــــ مرحبا مانويلا. مستعدة ؟

ـــــ .....أجل  

ـــــ ألبسي زي الراهبة، فلن يراكِ أحد. أرسلنا من بلغنا أن كيفن خرج لعمله، وسنرسل من يحضر عائشة هذه إلينا

طفرت عبرات مانويلا وقالت بنبرة رجاء:

ـــــ ألا يوجد عقاب آخر غير القتل ؟

استشاطت الراهبة غضباً:

ـــــ مانويلا. لا شأن لكِ بذلك. أحذرك من تجاوز حدودك مرة أخرى

قالت بفتور وهي تكفكف عبراتها التي سالت على وجنتيها:

ـــــ ..... آسفة  

ـــــ هيا، هيا. سيارة خاصة ستحضر إليك وتقلك إلى المطار

قالت بنبرة غلبها النشيج:

ـــــ .... أمرك، الأم صوفيا رئيسة الدير المبارك من الرب

وضعت مانويلا الهاتف جانباً واندلعت نيران الحيرة في دواخلها، فقالت بنشيج:

ـــــ لا أعلم ماذا أفعل ..لو تفوهت بكلمة لقُتلت على الفور .... ولكن أحمد ! أحمد.. هل أذهب لأودعه ؟ ولكن كيف!، كيف! وماذا سأقول له...أذهب ؟ ...لا، لا... أذهب ؟

صرخت باكية، تهز رأسها في حيرة:

ـــــ  لا أعرف، لا أعرف

وإذ هي تتلظى فوق جمار الحيرة، فإذ بجرس الباب يدق. اتجهت صوب الباب وكأنها تقترب من فوهة بركان تخشى أن تصل إليها، سألت وأنفاسها تتلاحق:

ـــــ من بالباب

 

ـــــ السائق . أرسلني الأب دانيال لأقلك إلى المطار

عضت على شفتها حسرة وعصرت دموع عينيها، ثم قالت تدافع النشيج:

ـــــ أشكرك . سأتبعك

تعجللها بتأفف:

ـــــ هيا من فضلك، فلا وقت عندي أيتها الراهبة

****************************************************

كان السائق ينتظرها خارجاً إلى جوار السيارة، حين رمقها قد نزلت الدرج في زي الراهبة..نظرت إلى باب شقة عائشة وذرفت دموع الرحمة وتمتمت:

شقة عائشة حبيبتي.. لهفي عليكِ يا عائشة

أشار لها السائق متأففاً، فأومأت برأسها..فرمقها تفعل شيئاً أثار دهشته:

ـــــ ماذا تفعل هذه المجنونة ! إنها  تقبل الباب ! من الواضح انها فاقدة للعقل

ألصقت جبهتها بباب شقة عائشة تبكيها بحرقة:

ـــــ عائشة، عائشة، لا أستطيع  حتى طرق الباب لأراكِ للمرة الآخيرة، الوداع يا عائشة، الوداع

اقترب السائق منها، يتعجلها متأففاً بصوت خافت:

ـــــ هيا، هيا

ـــــ هأنذا قدمت

****************************************************

قبل أن يهم السائق بإدارة المحرك، قالت بعد صراع بين الإحجام والإقدام:

ـــــ من فضلك أيها  السائق

ـــــ أمرك أيتها  الراهبة

ـــــ من فضلك هناك شخص يجب أن أودعه قبل المغادرة إلى برلين

ـــــ أيتها الراهبة، لا يوجد أوامر عندي بذلك . أمرني الآب دانيال أن أقلك إلى المطار فحسب

رجته باكية:

ـــــ مازال الكثير على وقت الطيارة، من فضلك أنه طلب أخير ولن أطلب غيره، من فضلك

ـــــ أوف!. أمرك، ولكن لا تطيلي الحديث

ـــــ حسناً، حسناً. أشكرك على إجابة الطلب

*********************************************

 

إلى هنا انتهت حلقتنا

 

التقيكم يوم الاثنين القادم إن شاء الله

لا تنسوا ذكر الله والصلاة على الحبيب عليه الصلاة والسلام

 

لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله

 

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد

 

 

تعليقات

  1. اللهم صل و سلم و بارك على نبينا محمد❤️بارك الله فيكِ أستاذة هبة منتظرين تكملة الحلقات بغاية الشوق❤️أم رفيف

    ردحذف
  2. كاميليا محمد
    لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
    اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد
    الحلقة رائعة والأحداث غاية الروعة في انتظار الحلقة بفارغ الصبر سلمت يداك 🌹 ودمتي مبدعة ❤️

    ردحذف
  3. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه 💕
    حلقة حزينة ومبكية 😭
    مانويلا في صراع داخلي رهيب بين فطرتها ومحبتها لعائشة وبين أوامر الرهبان
    لعل الله ينجيها في الوقت المناسب
    🌷دُمتِ مُبدعة 🌷

    ردحذف

إرسال تعليق